اتحاد الشغل في تونس منظمّة مأزومة

30 ديسمبر 2023
+ الخط -

قال أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي إنه آن الأوان لمصالحة وطنية حقيقية في تونس، وبناء مناخات ثقة مع محاسبة كل من أجرم وأفسد في حقّ الشعب بالعدل والإنصاف، بعيدًا عن ثقافة التشفّي والانتقام. وتابع، في الصدد، أنّ اتحاد الشغل ليس لديه خلاف شخصي مع السلطة الحالية، وإنما بشأن ملفّات معيّنة وكيفية تجاوز الهنات والمعيقات، معقبًا أنه ليس مع الأشخاص أو ضدهم، وإنما هو مع إصلاح البلاد، وتقويم كل اعوجاج. وهذه تصريحات تعبّر، في ظاهرها، عن صوت العقل، وتحاول ملء فراغات سياسية محفوفة بخطاب الكراهية والعنف والاستئصال، حيث يغيب في تونس، منذ انقلاب 25 يوليو، طرف وسيط، يسعى إلى تقريب وجهات النظر، ويجتهد لعقلنة خطاب السياسيين والسلطة. 
دور تحكيمي أساسي يغيب، أو غيّب فاعلوه، في مشهد احتكر الرئيس قيس سعيّد كل أدواته ومحرّكاته، كما أن ما تتطلبه هذه المهمّة من مواصفات، أهمها التحرّك خارج مربّعات النفوذ القديم والجديد والتمتع بالحد الأدنى من المصداقية السياسية والشعبية التي تخوّل لصاحبها تقديم المقترحات والمبادرات الصلحية التي تقلّل من الخسائر الوطنية وتفتح بعض الآفاق، أصبحت مواصفات شبه نادرة في دائرة النخب التونسية الفاعلة. وليس هذا من باب التهوين من هذه النخب أو ترذيلها، بقدر الاعتراف الموضوعي بتموقع جلها في مراحل مختلفة وبأشكال متعدّدة، ما يجعلها جميعا شريكة في الحصيلة، مهما كان تقييمها، بفارق بسيط في المسؤولية. 
لم ينس اتحاد الشغل، الذي أراد أن يتقمّص هذا الدور، أنه جزء من القديم المستهدف من منظومة قيس سعيّد، والمتهم، في أحيان كثيرة، بالعديد من الملفات والشبهات التي جعلت الرئيس يهمّش حضوره ويتجاهل، منذ البداية، مقترحه للحوار، ويعتبر ذلك تدخّلا سافرا في صلاحياته.

يدرك اتحاد الشغل كغيره من المنظمّات والأحزاب والأجسام الوسيطة أن منظومة قيس سعيّد لا تعترف بأهمية هذه الكيانات

تلت ذلك حملات ضد المنظمة وأعضائها جعلت الطبوبي يصرح، خلال إحياء الذكرى الـ71 لاغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد في 4 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، بأنّ الاتحاد يتعرّض إلى حملات قمع دموية متكرّرة، فضلًا عن محاولات إخضاعه ومصادرة حرّيته، وتعمّد قوى عديدة ضرب مصداقيته وتشويه مناضليه وتحجيم دوره. 
وقبل ذلك، اتهم الأمين العام المساعد للمنظمة سامي الطاهري السلطة القائمة باستهداف اتحاد الشغل ومناضليه، وذلك في تعليقه على قرار إيقاف أربعة نقابيين، بينهم كاتب عام الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس. وأكد الطاهري، في مداخلة إذاعية له في 21 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) أنه بالنظر إلى عدد القضايا المرفوعة ضد النقابيين، إضافة إلى استهدافهم بالنقلِ والطرد التعسّفي، فإن المسألة ليست بريئة. وإضافة إلى تصريح سابق له في 3 مارس/ آذار 2023 يقول فيه المتحدّث باسم اتحاد الشغل سامي الطاهري، إن الحكومة أغلقت أبواب المفاوضات والحوار، وتعمل عمدا على إغراق المؤسّسات العمومية، كما شدّد على أن الحكومة ماضية في تنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولي، والطبقة الوسطى "تدمّرت وتراجعت في مستوى المعيشة. 
تعددت القرارات والمواقف من السلطة التي تفيد بانتهاء الزمن الذي يرفع فيه اتحاد الشغل لواء البطولة والمبادرة، سواء من خلال المنشور عدد 20 لسنة 2021 الداعي الى ضرورة التنسيق بصفة مسبقة مع رئاسة الحكومة وكذلك عدم الشروع في التفاوض مع النقابات سواء في ما يخصّ مجال الوظيفة العمومية أو المؤسّسات والمنشآت العمومية، إلاّ بعد الترخيص في ذلك من قبلها.
يدرك الاتحاد كغيره من المنظمات والأحزاب والأجسام الوسيطة أن منظومة قيس سعيّد لا تعترف بأهمية هذه الكيانات، وأن الطريق الذي مضت فيه السلطة يقتضي تحجيم أدوارها جميعا، إلا أن بعضها يبحث عن منطقة وسطى يتحرّك فيها لا تعكر صفو السلطة التي فتحوا أمامها الأبواب بعيد الانقلاب بالتبرير أو الصمت، ولا تفقدهم أيضا مبرّرات وجودهم الذي صار مهدّدا بفعل التهميش والتغييب.

الاتحاد الذي كان قريباً من السلطة زمن بن علي ليس الاتحاد في عشرية الديمقراطية

منزلة بين المنزلتين تفقد أي جسم توازنه داخلها، خصوصا إذا كان ثقيلا ومعبأ بالتاريخ كاتحاد الشغل، الذي لم يستطع أن يتصالح مع مسيرته بقراءة نقدية متأنيّة، خصوصا في علاقته بالسلطة ومنظومات الحكم، التي تظهر عبر المحطّات المتعاقبة أدوارًا متناقضة أحيانا للمنظمة، حسب اختلاف جهة الحكم، فالاتحاد الذي كان قريبا من السلطة زمن الرئيس المخلوع بن علي ليس الاتحاد في عشرية الديمقراطية التي كان فيها طرفا رئيسيا في إدارة البلاد عبر المفاوضات والحوارات وتعيين وزراء، وأيضا عبر العدد المهول من الإضرابات، حيث يناهز عدد أيام العمل الضائعة بين 2010 و2018 زهاء 1957462 حسب مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة في وزارة الشؤون الاجتماعية، في سياق تطور زاحف تراجع منحاه نسبيا في أواخر 2014، أي بعد انتهاء تجربة الترويكا في الحكم بقيادة حركة النهضة.
ويبدو واضحا من المعطيات أن عدد الإضرابات والأيام الضائعة للعمل قد تضاعف كثيرا، مقارنة بزمن حكم بن علي، ويمكن الجزم اعتبار العشرية الأخيرة عشرية الإضرابات بامتياز، من دون اعتبار الاعتصامات وأيام الغضب في الولايات والإضرابات العامة التي نظمهما الاتحاد في فبراير/ شباط ويوليو/ تموز 2013 وفي يناير/ كانون الثاني 2019. وليس أيضا الاتحاد ذاته زمن قيس سعيّد رغم الأزمات الكبيرة والمركبة التي تشهدها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
لا يمثل هذا القول تحريضا على تعطيل العمل والإنتاج حاليا، أو تبريرا للخنوع المغلف ببعض التصريحات المتضاربة، بقدر ما يمثل محاولة فهم سلوك المنظمة غير المتوازن والمعطل للقيام بمهامّها أو حتى لعملية إصلاحها وتطويرها بسبب طغيان الحسابات والأجندات السياسية على العمل النقابي الحر.