إيكواس: مشكلة تكتّل أم صراع قوى؟
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
أعلن ثلاثي النيجر ومالي وبوركينا فاسو، في بيان مشترك، عن انسحابه من المجموعة الاقتصادية لدول غربي أفريقيا (إيكواس)، بسبب خضوعها لتأثير قوى أجنبية، جعلت هذه الكتلة الإقليمية تبتعد عن مبادئ المنظمّة العظيمة وقيم آبائها المؤسّسين. وتحدَّث البيان عن قرار هذه الدول أخذ مصيرها بأيديها، بإعلان قادتها، من موقع مسؤوليتهم أمام التاريخ، واستجابة لتطلعات شعوبهم، الانسحاب الفوري من التجمّع الذي زاغ عن غاياته، بعدما اتَّخذ "مواقف غير عقلانية وغير مقبولة وغير مسؤولة، في انتهاك لنصوصه الخاصة"، ما يشكّل تهديدا للدول الأعضاء وشعوبها.
خطوة متوقعة وغير مفاجئة، بالنظر إلى توتر العلاقة الذي أعقب الانقلابات التي عرفتها مالي (2020)، وبوركينا فاسو (2022)، والنيجر (2023)، فتوالت قرارات المنظمّة ضد القادة العسكريين بإغلاق الحدود مع مالي وتجميد أصولها المالية في البنوك التابعة لها، واستدعاء سفراء الدول الأعضاء من باماكو. وفرض حصار اقتصادي موسّع على النيجر، مع عزم قوي على التدخّل عسكرياً من أجل استعادة السلطة هناك، كاد أن يحدُث لولا اعتراض مالي وبوركينا فاسو الشديد عليه، مع تلويحهما بإمكانية القتال ضد القوة المشتركة للمجموعة.
يبقى الانسحاب بهذه الطريقة سابقة في تاريخ المنظمّة، ومن ثلاثة أعضاء ساهموا في تأسيس التكتل، عام 1975، لهم وزن ثقيل (ديموغرافياً وعسكرياً واقتصادياً) في قائمة دول المجموعة. بذلك، تصبح منطقة الصحراء أمام منعطف جديد، بعد 49 عاماً من التضامن والتعاون والعمل المشترك بين هذه الدول، فحتى واقعة خروج موريتانيا، أواخر عام 2000، ثم عودتها بتوقيع اتفاق شراكة مع المجموعة في صيف 2017، لا تمثل شيئاً مقارنة بأهم تحدٍّ يواجه المنظمة منذ تأسيسها.
الوساطة أنجع السبل لتجاوز مأزق يضع مجموعة إيكواس برمتها في مهب الريح
يُنظر إلى تجمع إيكواس (15 دولة)، تمتد على خمسة ملايين كيلومتر مربع، أي ما يعادل 17% من مساحة القارّة، وتعداد سكّاني يفوق 350 مليون نسمة، بأنه أعلى سلطة سياسية وإقليمية في غرب أفريقيا، فما يملكه من صلاحيات قانونية عن طريق مواثيقه يسمح له باستتباب الاستقرار السياسي، وضمان التداول السلمي على السلطة في دول منطقة غرب أفريقيا، بعد نجاح تدخله في عمليات حفظ السلام بقوات عسكرية مشتركة، في عدة دول: ليبيريا (1990)، وسيراليون (1998)، وغينيا بيساو (1999)، وساحل العاجل (2003)، وغامبيا (2017).
لكن توالي الانقلابات العسكرية في المنطقة، في السنوات الأخيرة، أفقد المنظمة كثيراً من سلطتها، بسبب تباين مواقف أعضائها إزاء تلك الأحداث، ما انعكس على الإجراءات المتّخذة ضد قادة الانقلاب، بالرغم من قرار المحكمة الإقليمية للمجموعة القاضي بافتقار المجالس العسكرية إلى القدرة على التصرّف بدلا من الحكومات المنتخبة نيابة عن دولها. لذلك، كانت العقوبات بلا تأثير، فلا المدنيون عادوا إلى الحكم، ولا الانتخابات نظمت في مواعيدها؛ فالعسكريون في بوركينا فاسو وعدوا بانتخابات في صيف عام 2024، فيما قرّر أشقاؤهم في مالي تأجيلها إلى تاريخ غير محدّد، بعدما اقترب موعدها المحدّد، عقب الانقلاب، في فبراير/ شباط 2024.
وضَعَ قرار الانسحاب من التكتل الطرفين في مأزق كبير، فالوضع الاقتصادي في الدول الثلاث سيزداد تأزّما، كونها دولاً غير ساحلية، تعتمد أساسا على موانئ الدول الأعضاء في المنظمة. ناهيك عن شلِّ حركة التجارة والاستثمار، وتنقل المواطنين إلى دول أخرى، بسبب الخروج من نظام المرور من دون تأشيرات. ويبقى التدهور الأمني أكبر تداعياته، فتفكيك التعاون الذي كان قائما، رغم هشاشته، سيفاقم مشكلات العنف والجريمة المنظمّة في المنطقة، ويزيد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
تواجه "إيكواس" خطر التفكك، فخروج ثلاثي الساحل قد يشجع دولا أخرى على مغادرة المجموعة الاقتصادية، في ظلّ انتشار سردية بين شعوب الدول الأعضاء، تعتبر المنظمة مختطفة
تواجه "إيكواس" خطر التفكك، فخروج ثلاثي الساحل قد يشجع دولا أخرى على مغادرة المجموعة الاقتصادية، في ظلّ انتشار سردية بين شعوب الدول الأعضاء، تعتبر المنظمة مختطفة من نيجيريا التي تمثل 60% من ناتجها المحلي، وتحظى بقرابة 3/1 من المقاعد في برلمان المجموعة (35 من أصل 115). وزادت لغة تحرير بيان الانسحاب الأمر حدّة، بالحديث عن الدعم الشعبي للخروج من هيئة لم تعد ذات سيادة في قراراتها، وفي ذلك إشارة مباشرة إلى الضغوط الفرنسية على أعضاء بعينهم في التجمّع الاقتصادي.
نجح قادة الدول الثلاث في زجّ المنظمة في متاهة يصعب الخروج منها، فالاعتراف بالمجالس العسكرية في هذه الدول، يمثل تهديدا لبقية دول إيكواس، لأنه يفتح الباب أمام الانقلابات في دول أخرى. وعدم الاعتراف يعني خسارة عضوية ثلاثة أعضاء مؤسّسين، نجحوا بهذا القرار في توسيع حاضنتهم الشعبية ورفع رصيدهم الجماهيري، باستغلال الخطاب المناهض للنفوذ الغربي لدى شعوب المنطقة، فضلاً عن توريط المجموعة بالتشكيك في استقلاليتها.
الوساطة أنجع السبل لتجاوز مأزق يضع المجموعة برمتها في مهب الريح، ليثور السؤال كيف ذلك؟ الجواب بكل بساطة هو إصلاحات داخلية جوهرية تنفي عن المنظمة أي ولاء للغرب أو خضوع لتأثير خارجي. من شأن خيار آخر أن يضع المنطقة على كفّ عفريت، بالحضور المتزايد لروسيا، بدعمها تأسيس تحالف دول الساحل الثلاث، لتطويق النفود الفرنسي المتداعي في القارّة، ما يحوّل غربي أفريقيا إلى بؤرة توتر جديدة في صراع النفوذ الدولي، وإعادة بلورة نظام عالمي بين القوى الكبرى.
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.