إيران تجمع أوراقها وتعيد تموضعها
يكثر الحديث، هذه الأيام، عن إعادة خلط الأوراق على الصعيدين الإقليمي والدولي، انطلاقا من المفاوضات غير المباشرة التي تجري حاليا في فيينا بين الولايات المتحدة وإيران بشأن الملف النووي برعاية الاتحاد الأوروبي، والحوار المفاجئ بين إيران والسعودية، على الرغم من المواجهة المستعرة في اليمن منذ ست سنوات، وكذلك الانفتاح السعودي والخليجي على النظام السوري، وأخيرا التهافت التركي المباغت نحو إعادة ترميم العلاقات مع مصر والسعودية. وتوحي سرعة هذه التطورات وكأن انقلابا حصل في موازين القوى، وفي حسابات المصالح على الصعيد الإقليمي، وتحديدا لدى إيران وتركيا اللتين كانتا تشكّلان مع إسرائيل القوى الإقليمية الثلاث التي تتجاذب الدور والنفوذ، وتُمسك بزمام المبادرة على حساب الدور العربي. هل إنها محاولات للتكيف مع ما يمكن أن ينتج عن مفاوضات فيينا، أم إنها محاولة استباقية للتحصّن وفرض وقائع جديدة على المفاوضين، وتحديدا على الولايات المتحدة التي لا يبدو أن إدارتها الجديدة قد بلورت بعد استراتيجية واضحة في سياستها الخارجية. ولأنها ما زالت تتلمس أي خطة للشرق الأوسط، وكيفية التعاطي مع نظام الملالي في إيران الذي أصبح يسيطر، أو أقله صاحب دور فاعل ومؤثر في عدد من دول المشرق العربي، وتقف حائرةً بين رغبتها في العودة إلى الاتفاق النووي مع بعض الشروط، وضرورة مراعاة مصالح حليفتها الأساسية إسرائيل التي ترفض إعادة إحياء الاتفاق، وتسعى إلى الالتفاف على إيران عبر التطبيع مع دول الخليج، وعبر الضغط عليها عسكريا، لإخراجها من سورية التي باتت ساحة بيد روسيا بوتين. وهذا أمر على الرئيس الأميركي، بايدن، أن يأخذه أيضا بعين الاعتبار، فيما تفكيره واهتمامه وغضبه منصبٌّ نحو بكين التي سجّلت اختراقا إقليميا بالاتفاق الذي وقعته مع طهران نفسها.
السعودية متوجسة، على الأرجح، من سعي الإدارة الأميركية إلى إعادة تعويم الاتفاق النووي
غير أن الالتفاف الحقيقي هو ما قامت به إيران من خلال الحوار المفاجئ الذي بادرت إلى إطلاقه مع السعودية، الحليف العربي الأول للولايات المتحدة، وعبر جارها العراق الذي يرأس حكومته مصطفى الكاظمي، الذي سجّل مجيئه إلى السلطة قبل سنة خرقا أميركيا مهما في مسار استتباع هذا البلد لوصاية الملالي. ولكن الكاظمي نجح بشكلٍ لافت وذكي في عبور حقل ألغام "الحشد الشعبي"، وفرض هامش واسع من استقلالية القرار والعودة بالعراق إلى محيطه العربي، ونحو الجار السعودي بالتحديد، والتحوّل إلى نقطة تقاطع بين طهران والرياض، ثم احتضان حوار صعب جعلته ممكنا ربما حاجة الطرفين، كل من منطلقاتٍ ولأسبابٍ مختلفة، للبحث عن تسوية ما في حرب اليمن التي استنزفت طاقات الشعب اليمني وقدرات الطرفين. السعودية متوجسة، على الأرجح، من سعي الإدارة الأميركية إلى إعادة تعويم الاتفاق النووي، غير آبهة، أو غير قادرة، على وضع تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة على طاولة المفاوضات، علما أن هذا المطلب الأهم الذي يقلق الدول العربية. في المقابل، تتعرّض إيران لضغط هائل من الخصوم والحلفاء على السواء، من أميركا وإسرائيل ومن روسيا أيضا، بالأخص في الساحة السورية التي يلتقي الجميع على ضرورة إخراجها منها. وهي تخشى، بالتالي، أن يتحوّل إلى ضغط ميداني من الأطراف الثلاثة.
يحاول الأسد إيهام رعاته في طهران أن الرياض تسعى إلى إعادة العلاقات الطبيعية مع دمشق
وهذه إسرائيل مستمرّة في غاراتها على مواقع عسكرية للنظام ولمواقع إيرانية ولمليشيا حزب الله من دمشق إلى اللاذقية، فيما التنافس على أشدّه ببن طهران وموسكو للاستئثار بإدارة بشار الأسد الذي يريد بوتين استخدامه للعبور إلى الحل السياسي، طبقا لقرار مجلس الأمن 2254، ما من شأنه أن يعبد الطريق إلى إعادة إعمار سورية التي لا تقوى عليها سوى أوروبا ودول الخليج، ما يمكّن روسيا من تثبيت دورها ونفوذها في المنطقة، وليس الاستمرار في استنزاف الشعب السوري وتشريده ومقارعة إسرائيل وأميركا، وجعل سورية موطئ قدم لإيران على البحر المتوسط. إيران تبحث إذاً، أقله، عن تحييد السعودية ودول الخليج في هذه المواجهة التي يحاول الأسد أن يلعب دورا فيها، عبر إيهام رعاته في طهران أن الرياض تسعى إلى إعادة العلاقات الطبيعية مع دمشق. ولكن هذه المناورة تطرح سؤالا أساسيا حول ما إذا كان لدى الأسد ما يقدّمه إلى السعودية ودول الخليج كي تعود الحرارة إلى العلاقات الثنائية: فهل هو مستعد أو راغب في الخروج من تحت العباءة الإيرانية، وكسر هيمنة طهران المباشرة على مفاصل السلطة وأجهزتها العسكرية، أو هل يملك القدرة أو المشروعية لإجراء مصالحة وطنية تمهد لإطلاق عملية الانتقال السياسي للسلطة، وإعادة النازحين إلى بلداتهم وقراهم على أساس بنود مؤتمر جنيف وقرارات الأمم المتحدة التي تعلن (وتكرّر) السعودية التمسّك بها، أو هل ما زالت لديه في لبنان أوراق يستطيع وضعها في يد العرب لمواجهة الهيمنة الإيرانية، علما أن لبنان أصبح ساحة للنفوذ الإيراني، والقرار فيه لحزب الله الذي أصبح نفوذه أقوى من نفوذ بشار داخل صفوف كبار الضباط والألوية العسكرية السورية. مراهناتٌ كثيرة جرت خلال السنوات الأخيرة على إخراج الأسد من تحت العباءة الإيرانية باءت كلها بالفشل.
تحاول إيران استغلال استياء السعودية وبعض دول الخليج من البرودة التي يبديها الحليف الأميركي، عبر مد جسور مباشرة معها لطمأنتها
يكشف رئيس الحكومة السورية الأسبق رياض حجاب، أخيرا، في حوار مع "تلفزيون سوريا"، أن الأسد قال له إنه إذا خُيّر بين الإيرانيين والروس سيختار الإيرانيين. وربما هذا كان يصح على الأرجح قبل أواخر 2015، تاريخ التدخل العسكري الروسي، أما اليوم فإن الأسد كرة يتقاذفها الطرفان، ويحاول كل منهما الإمساك بها ولعبها في اللحظة المناسبة ليسجّل بها نقاطا على حليفه.
لذلك، خطت إيران أول خطوة باتجاه الشرق بتوقيعها على اتفاقية تعاون اقتصادي وتنموي لـ25 عاما، وقيمتها 400 مليار دولار، وتؤدي إلى تعميق نفوذ الصين في الشرق الأوسط، وتساهم، ولو جزئيا، في فك عزلة إيران بسبب العقوبات الأميركية المكثفة والخانقة. وهي الآن تحاول استغلال استياء السعودية وبعض دول الخليج من البرودة التي يبديها الحليف الأميركي، عبر مد جسور مباشرة معها لطمأنتها، معلنةً، خطوة أولى، موافقتها على وقف إطلاق النار في اليمن. ولكن بطبيعة الحال هذا مسار طويل على جدول أعماله أكثر من قضية وملف (اليمن وسورية ولبنان والإرهاب وغيرها...)، ويلزمه بالتالي كثير من الوقت، ومن رسائل حسن النية، وإعادة بناء الثقة. يقابله تجاوبٌ وتعاطٍ حذر من السعودية التي تدرس خطواتها بتأنٍّ، إلا أن إيران تعتبر أنها وضعت القطار على السكّة، وتراهن ربما على مسألة حسن الجوار بين دول الخليج.
توترت علاقات أنقرة مع القوى الاقتصادية في العالم العربي التي أوقفت استثماراتها في تركيا، ما اضطر الحكومة التركية إلى إعادة النظر في سياستها مع الدول العربية
غير أن الخطوة المفاجئة والأكثر إثارة ما قامت به تركيا التي بدت وكأنها تدخل في سباق مع إيران، إذ اندفعت بشكل مفاجئ نحو إعادة ترميم علاقتها مع مصر وبدون أي شروط، لا بل إنها وافقت على إغلاق قنوات تلفزيونية ووسائل إعلام تبث من أنقرة تابعة لمعارضين مصريين من "الإخوان المسلمين" وترحيل بعضهم. وزار وزير الخارجية التركي، جاووش أوغلو، الرياض الأسبوع الماضي، بعد فتور في العلاقة، سببه وصول "الإخوان" إلى السلطة في مصر عام 2013، ثم قطيعة منذ 2018 على أثر مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول. وهذا ما أدى إلى توتر علاقات أنقرة مع القوى الاقتصادية في العالم العربي التي أوقفت استثماراتها في تركيا، ما اضطر الحكومة التركية إلى إعادة النظر في سياستها مع الدول العربية، وإلى محاولة موازنتها بالعلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا عموما، الآخذة بالتدهور إثر توتر في العلاقات مع دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتهديد بعض الدول الأوروبية بوضع عقوبات على أنقرة، والأهم تخوفها من نيات الإدارة الأميركية الجديدة التي تتوعدها بمعركة حول الحريات وحقوق الإنسان، ناهيك عن الحليف الروسي الذي يرسم لها حدود حركتها في شمال سورية. فهل هي محاولة من تركيا وإيران للتحصن في دفء الإقليم في مواجهة صقيع الغرب؟