إليزابيث الثانية … لها وعليها
طوت المملكة المتحدة صفحة الملكة إليزابيث الثانية التي توفيت قبل يومين عن 96 عاماً قضت منها 70 عاماً في الحكم، لتُفتح صفحة الملك تشارلز الثالث الذي ورث العرش عن أمه وهو في الثالثة والسبعين، وسط توقعاتٍ بألا يستمر طويلاً ويسلم نجله وليام التاج الملكي، خصوصاً أن شعبيته متواضعة جداً بين البريطانيين على عكس والدته ونجله.
لا شيء سيتغيّر عملياً في حياة البريطانيين وسكان المملكة، باعتبار أن العائلة الملكية تحوّلت، مع مرور الزمن، في الحياة السياسية تحديداً، إلى مؤدية لدور تقليدي متوارث، غير أنه غير فاعل في الحكم عملياً، فالملكة كانت تفتتح جلسات البرلمان وتعيّن رئيس الوزراء في إطار التقاليد الملكية المتوارثة قبل تحوّل البلاد إلى الملكية الدستورية. ورغم أن الدستور كان يمنح معتلي العرش هامشاً من التدخل في الحياة السياسية، إلا أن الملكة إليزابيث الثانية اكتفت بأن تكون رمزاً للبلاد، واقتصر دورُها على الجولات "السياحية السياسية"، داخلياً وخارجياً، حتى أن قصورها تحوّلت إلى مزارات سياحية تدرّ على المملكة ملايين الجنيهات الإسترلينية.
إلا أنه لا يمكن النظر إلى كل فترة حكم الملكة بأنها كانت وردية، أو أنها والأسرة الحاكمة كانوا منزّهين عن الدخول في صفقاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وشبهات فساد، فخلال الفترة الأولى لحكم إليزابيث، عرفت مستعمرات بريطانية كثيرة حركات تحررية مطالبة بالاستقلال، جوبهت بعنف دموي من القوات البريطانية المستعمرة، وهو ما كان أول لطخة في فترة حكم الملكة الجديدة. ورغم أن الملكية الدستورية معتمدة في المملكة المتحدة منذ مئات السنين، إلا أن "الملك" يبقى رأس الدولة ورئيساً لمستعمرات ما وراء البحار.
ولم تكن الفترة الأولى من حكم إليزابيث بعيدة كلياً عن السياسية، وتحديداً في ظل الأزمات التي كان يعيشها حزب المحافظين في ذلك الحين، فقد كان لها دور مباشر في اختيار رئيس الوزراء، بعدما كان الحزب يفشل في انتخاب رئيسه. كما كانت تستقبل سياسيين لإجراء محادثات سرّية. ولم تكن اللقاءات والاجتماعات تقتصر على رؤساء الحكومات البريطانية، وإنما شملت أيضاً قضاة ونقابيين ورجال أعمال وشخصيات عادية تُدعى إلى القصر الملكي.
لكن تدريجياً، انسحبت الملكة من الحياة السياسية، وكرّست حالة الملكية الدستورية بعد استقرار النظام الحزبي في البلاد. غير أن ذلك لم يعفها من الفضائح والنقد، خصوصاً بعد وفاة الأميرة ديانا في حادث سير مروّع عام 1997. ومع أن الملكة عبّرت عن صدمتها من الخبر، إلا أنها تعرّضت لانتقادات لكونها لم تُقدم على إلغاء عطلتها على الفور، فيما وصف بريطانيون عديدون ردّها على الوفاة بأنه كان مقتضباً ومتأخراً. كذلك راجت نظريات كثيرة، لم تثبت ولم تدحض، عن دور للأسرة المالكة في الحادث، وأنه كان مدبّراً. يضاف ذلك إلى الأزمات الاتهامات التي وُجّهت إلى عديدين من أفراد الأسرة الحاكمة، وفي مقدمتهم الملك الحالي تشارلز الثالث، بتلقي رشاوى وعمولات وتدبير صفقات بين دول وشركات بريطانية.
رغم ذلك، بقيت علاقة البريطانيين مع ملكتهم خاصة، وهم الذين ينظرون إليها أنها ساهمت في إنقاذ النظام الملكي المتعلقين به، كذلك الدور الذي لعبته أثناء استفتاء استقلال اسكتلندا في عام 2014، والذي منع تفتّت المملكة. وتنعكس هذه العلاقة في مظاهر الاحتفال السنوي بعيد ميلاد الملكة، إضافة إلى حالة الحزن الحقيقية التي أصابت غالبية البريطانيين على رحيلها.
لم تكن إليزابيث الثانية ملاكاً مطلقاً ولا شيطاناً مطلقاً، كان لها الكثير، داخلياً في الدرجة الأولى، وعليها الأكثر داخلياً وخارجياً.