إليانا... سيدة من أوكرانيا
لم تكفّ جارتي الأوكرانية، إليانا، عن البكاء، حين أعلنت الأنباء بدء الغزو الروسي لبلادها. ظلت متسمرة أمام شاشة التلفزيون، تتابع القنوات الإخبارية. أصيبت بانهيار عصبي، ما دفع زوجها الطبيب الأردني إلى حقنها بإبرة مهدّئة، علّها تتغلب على حالة الرعب التي تمكّنت منها حزنا على بلادها المستباحة. سيطر الرعب على جوارحها، خوفا على عائلتها وأصدقائها، وهي تسمع أخبار الصواريخ الروسية التي أمطرت المدن الأوكرانية، وعن تدفق مجموعات من قوات العدو الروسي عبر الحدود البرّية، وعن إنزال من البحر الأسود وبحر آزوف. تنصت بجزع إلى تصريحات وزير الصحة الأوكراني عن مقتل 57 شخصا على الأقل وإصابة 169 في الاشتباكات العنيفة. تحاول الاتصال بعائلتها المقيمة في كييف، يحاولون طمأنتها قائلين إنه جرى إخلاؤهم منذ ساعات بسبب شدة القصف فوق منازلهم القريبة من مطار عسكري، وإنهم بخير، ويطلبون منها عدم القلق. تصرخ وكأنها تذكّرت للتو: أخي الصغير ضابط في الجيش، سأموت إذا مسّه مكروه. أمي وأبي مسنّان، لا يقويان على التنقل بسهوله تحت وقع الانفجارات المدوية. أختي وصغارها ماذا سوف يحل بهم، وأنا عاجزة عن فعل أي شيء لهم. يحاول زوجها تهدئتها من دون جدوى، لأن هول الصدمة أكبر من احتمالها.
إليانا، السيدة الرقيقة الجميلة، عازفة البيانو التي أحبّت زوجها الأردني، خرّيج كييف. قدمت برفقته إلى عمّان، ثم أنجبت ابنا وابنة في غاية التهذيب والجمال. ربّة بيت من الطراز الأول. تتقن إعداد الأطباق الأردنية وتتحدّث اللهجة الأردنية الفلاحية بطلاقة، وتحب بيتها الصغير الذي جعلت منه فضاءً من جمال خالص. تحظى بمحبة عائلة زوجها، ولديها صديقاتٌ أردنياتٌ كثيرات. تواظب على زيارة المركز الرياضي، وتعتني بجمالها من دون أطنان المساحيق. امرأة بسيطة طبيعية، غير متكلفة، دفعها الحب إلى الرحيل بعيدا عن موطنها، غير أنها كانت سعيدة راضية، تحب الحياة وتحب عائلتها. تخصص ساعتين من يومها، لتدريب صغارها على عزف البيانو الذي يصدح صوته في الجوار. أحيانا يعلو صوتها مؤنبا، إذا خرج أحدهم عن النوتة. امرأة لا تستحق سوى الفرح الذي غادرها على نحو مباغت. تبدو الآن حزينة ومرتبكة ومذعورة، وقد انهار عالمها دفعة واحدة.
التفّ الأهل والصديقات والجارات حولها مساندين متعاطفين. حمدتُ الله ألف مرة، كونها بعيدة عن عالم التواصل الاجتماعي، كي لا تُصدم بردود فعل كثيرة، جاهلة غبية عديمة الإحساس، فاقدة الحس الإنساني، من ذكور ضحلين مأزومين، مكبوتين مبتلين بذواتهم (بعضهم حملة شهادات عليا!)، وقد أعلنوا سعادتهم باللجوء الأوكراني الأنثوي المحتمل، وأخذوا يطلقون الدعابات السمجة، ثقيلة الظل، وكأن عذابات الشعوب مادّة للتندّر والفكاهة الممجوجة والسخرية المنفرة، معبّرين عن مستوى أخلاقي منحط مثير للغثيان، في تكرارٍ مقرفٍ لدعاباتٍ كريهةٍ تداولوها في أثناء الثورة المجهضة في لبنان.
الحرب، مهما كانت أسبابها، حالة وحشية بشعة. لا يدفع ثمنها سوى الأبرياء من المدنيين. مشكوكٌ ومدانٌ ومطعونٌ في أخلاقه وضميره وإنسانيته كل من يدعمها. وعلى أصحاب الضمائر الحية مقاطعة تلك النماذج القبيحة المحسوبة على الإنسانية ظلما وبهتانا، وكشف مدى انحدارهم وضيق أفقهم وتجرّدهم من حسّ التضامن مع الضعفاء المغلوبين على أمرهم. ليس مطلوبا منا، نحن الأفراد، إدراك تعقيدات اللعبة السياسية، ولن يكون في وسعنا سوى إبداء بعض التعاطف مع مآسي البشر، بغض النظر عن جنسهم ودينهم وموقعهم الجغرافي، وذلك من باب أضعف الإيمان!