إلياس كانيتي ما بين الدراويش والرواة
كيف رأى إلياس كانيتي دراويش مراكش الحمراء؟ وكيف كان طعم العُملة المعدنيّة في فم الدرويش؟ وما علاقة اللعاب في فم الدرويش بالزمن والانتظار وكلمة "الله"، التي ينطقها كلّ آن كي يخفّف من قسوة اللحظات وتطير الأرواح فوق أجنحة الكلمة عبر الجهات؛ كون واسع ودرويش هناك بجوار جدار ينتظر الفرج أو الفرح أو حينما يلين القلب؟
الله هو روح الدعوات، وهو الذي يخفّف الصبر عمن جرح ولا سبيل له سوى الانتظار أو حنان بعض القلوب، ودعاء يأتي غامضا من فم الدرويش لصاحب العملة المعدنية، وانتظار آخر لحنان السماء. والله، في كل حال، هو باب العمل، وباب الدعاء، وباب الرزق. ولذّة اللسان هناك عالقة باللعاب مع العملة، ولسان درويش يتهجّى بالذوق طعم العملة وقيمتها أيضاً، وطبيعة القلب الذي ناولها باليد، لأن عين الدرويش هناك شاردة في فكّ رموز المعرفة، بعدما أصبحت الحروف تحت "قراءة اللسان"، لا العين، أما العِميان فلهم عند إلياس كانيتي مقام آخر.
"لكن تبقّت كلمة 'الله'. لم أكن قادراً على أن أصل إلى الإحاطة بها، وبفضلها كنتُ مجهّزاً لتجربتي مع العميان، وهي الأكثر ثراءً وتأثيراً والأشد ثباتاً واستقراراً"، "كثيرون هم الذين لا يثقون إلا في اسمه، ولا ينادون إلا به".
في كل مرّة يرانا الغريب بشفافية، أكثر منا، حتى وإن كانوا دراويش وعمياناً، وفي حالات الرواة يزداد عجز إلياس كانيتي أمام نفسه، ويزداد شكّا في قدرة الكتابة على القول بثقةٍ "أما الرواة فيعيشون في زحام الأسواق بين مئاتٍ من وجوهٍ غريبةٍ تتغيّر كل يوم، يعيشون دون وطأة أي علم بارد وسطحي، إنهم لا يمتلكون كتبا، ولا طموحات، ولا أمجادا كاذبة، لم أشعر، إلا نادراً بالراحة والطمأنينة بين الناس الذين يعيشون فوق الأرض بالأدب". هل لذلك عاش إلياس كانيتي سنواتٍ طويلةً من عمره بعيدا عن الأضواء والمناسبات، أم أن هؤلاء الضيوف الأرقّاء على موائد الأدب والحياة أيضاً يختارون في سعادةٍ تامة وحدتهم بعيدا بعنايةٍ فائقة؟ فمن الذي خسر من ذلك، كتّاب السير أم هم أنفسهم أم نحن؟ لماذا يبتعد الكاتب عن أخلاقيات التسويق ومظاهر الحرفة التي غالبا ما تكون خادعة، وخصوصا في حرفة الكتابة، هل لأن الرمز كان الطمع في نيْل مكاسبه أكثر بكثير من أصحاب الحرف المطمئنة، كالعالم والطبيب والكيميائي وغيرهم، أم لأن الكتابة قريبة جداً من السحر القديم وقريبة جدا من صولجان السلطة لو أرادت السلطة أن تجعلها مطيّة لها. بالطبع، ما أسهل الغناء، ذلك الهين اليسير على قلوب العامة والشعب والجماهير وحتى الأمراء والخلفاء وبيوت الأثرياء والعمد وغيرهم".
"لقد اكتشفت فتنة هذه الحياة التي تلخص كل شيءٍ في الشكل الأكثر بساطة، ألا وهو التكرار، هل هناك تنوّع كبير أو قليلٌ في أعمال أولئك الحرفيين الذين كنتُ أراهم يشتغلون في دكاكينهم الصغيرة؟ أو في كؤوس الشاي التي يشربها الضيوف هنا؟ ما هو التنوّع الذي نجده في المال؟ وكم في الجوع؟ لقد أدركت من هم هؤلاء العميان في الواقع: إنهم قدّيسو التكرار".
هل الدراويش أهل تكرار أم أهل أحوال ولم ير كانيتي ذلك، فماذا لو أدركهم حقيقة في كل أحوالهم بعيدا عن الفقر والحاجة، ورصد تكرارهم أو كلماتهم أو أفعالهم، ليس فقط بالقرب من جامع الفنا؟ مكان أرزاقهم وتوجههم إلى الله بذكره وبشطحاتهم، ولكن في بيوتهم ومساكنهم، حتى وإن كانت بسيطة أو نائية. وهنا قد يفتح النقاش إلى معان أخرى أكثر ثراءً، وخصوصا عند من رأى وذاق واقترب وعرف، وليس بعين السائح، حتى وإن كان في حجم إلياس كانيتي في رحلة قام بها مع فريق عمل لتصوير فيلم سنة 1953.
أما ذلك الرجل الذي يكلّم الحمارالمريض والمجروح، فأمره ليس عجيبا، حيث أعاجيب العالم تقود الممسوسين إلى محاولة الفهم أو إفهام الحمار نفسه، حيث بات العالم كله مائدةً من الألغاز، فما حاجة الرجل للعالم، بعدما صار الحمار بوابة المعرفة والفهم أيضا والمحاورة.
كلها رموزٌ مغلقةٌ حول جامع الفنا، وما الإنسان، وهو صاحب اللغز الأكبر، وهو المضحك والباكي والحزين والباحث عن السعادة والفهم، ولو من خلال حمار، تأخذه النشوة في آخر المطاف في القلب من ساحة جامع الفنا، ويجد متعته في محاولة استحضار الغريزة. وهنا يعلنها إلياس كانيتي واضحة كرؤية: "أتمنى لكل أولئك الذين يتعذّبون أن تكون لهم في شقائهم رغبته نفسها".