إلياس فركوح .. كل ذلك الندى
ليس صحيحا، تماما ودائما، أن الأديب هو نصوصُه، وأنه أسلوبُه، وأنه ما يكتُب. هذه إشاعة، أو قولةٌ جرت على الألسنة وذاعت حقيقةً، من دون اختبار نقصان الدقة فيها. الروائي والقاص والمترجم (والناشر) الأردني، إلياس فركوح، شاهدٌ على الافتراء فيها. ثمّة مقادير ظاهرةٌ من الصعوبة في تلقّي أدب الصديق الذي غادرنا، أول من أمس الأربعاء. وكما أن جهدا، مضنيا ربما، أنفقه إلياس في كتابته قصصه، في مجموعاته الثماني، سيما الثالثة وما بعدها، ورواياته الأربع، يتبدّى في النحت الذي يصنعه في بناءٍ مركّبٍ أحيانا، أو غالبا، للسرد الذي يبسُطه للقارئ، فإن على هذا القارئ أن يتعب أيضا، بعض الشيء، ليُحرز ما سمّاها ناقد عراقي "متعة القراءة الصعبة".كان كاتبنا الخبير، والرفيع الثقافة، يفعل هذا، صدورا عن قناعته بشراكةٍ، من النوع غير الرائج، بين الكاتب ومتلقّي نتاجه. وفي محاوراتٍ معه منشورة، جاء إلياس على هذا الأمر، وأقرّ في إحداها بصعوبة التواصل مع نصوصه، وقال إن رهانه (إذا جاز له التعبير، على ما أوضح) يعتمد على أن المستغلَق اليوم، بسبب التركيب اللغوي، سوف ينفتح كلما امتلك القارئ حساسية اللغة الأدبية. ظل الصديق الأعزّ كاتبا تجريبيا، لا تستسلم نصوصه لمواضعاتٍ معلومةٍ في جنسها، يقيم انتهاكاته الخاصة في الطرائق المستقرة لكتابة القصة، ويتحرّر من مسلّماتها، ويتخفّف فيها من المأخوذ به. يبلغ في هذا مدىً رفيع القيمة في آخر مجموعاته "حقول الظلال" (2002). ولا أمزح لو قلت هنا إن روايته "غريق المرايا" (2012) شديدة الاستثنائية في مجرى الكتابة الروائية العربية الحديثة، فيها كثيرٌ من الجدّة. ولأنها كذلك، فإن قارئها سيغتبط بها، وهو يقع فيها على تداخلٍ بديعٍ بين اللغوي والفوتوغرافي، في "لوحاتٍ" قصصيةٍ تتالت، وشكّلت مبنى الرواية التي أريد أن تكون خيوطُها ملتبسةً، ظاهرة وخافية. وفي غير عمله المثير هذا، حضر النص الهجين، والمفتوح، والشعري المنفلت من الشعر، و"ألوانٌ" مثيلةٌ في الكتابة الإبداعية "المراوغة" أتقنها الفقيد الباقي.
ولكن إلياس فركوح ليس هكذا، ليس شخصا صعبا، بل كثير الوضوح، آسرٌ حقا. لا يُتقن المناورة والمراوغة. لا حاجة إلى الأخذ والردّ بينك وبين نفسك إذا تعاملتَ معه في أي شأن وأي عمل. إنه صديق الجميع. يكفي أن تتعرّف عليه، وتُجالسه مرّة أو اثنتين، لتصير صديقا له، أو أقلّه مرتاحا لشخصه وأريحيته. ليس فيه "العُسر" الذي غالى بعض قرّائه في الكلام عنه، وهم يتبرّمون من "عنتٍ" في قراءة أعماله (ومقالاتٍ له أحيانا). لا أتذكّر المرّة الأولى التي تعرّفت فيها عليه، قبل خمسة وثلاثين عاما. وليس في شريط صلتي القريبة منه يومٌ لم أره رائقا وهادئا مزاجُه. ظلّ منفتحا مع الكل. ولهذا وغيره، ظلت جمهوريةٌ رحبةٌ تحيط بالصديق الذي انشلعت أرواحُنا لمّا باغتنا نبأ رحيله. انشغل كثيرا، وبمحبةٍ غزيرةٍ، بإصدار مجاميع شعرية وقصصية وروائية لشبابٍ كثيرين، عن دار أزمنة للنشر التي أسّسها في عمّان العام 1992، وقد صار بعضُهم أصحاب منزلةٍ في المشهد الأدبي العربي الراهن. ومن أسفٍ أن إلياس كان، في الأشهر الأخيرة، يحاول إنقاذ الدار من خساراتٍ استجدّت عليها، وهي التي بالكاد كانت تصرف على نفسها. ثم أخذ قرارَه، قبل أسابيع، بصيغةٍ تدريجيةٍ لتصفيتها. لم يكن ناشرا "شاطرا" في فنون تجارة الكتب، وإنما كان "ذوّاقةً" في نشر الترجمات عن آداب العالم، والنصوص الجديدة، والجيدة غالبا، و"ذوّاقةً" أيضا في تصميم الأغلفة، بنفسِه أحيانا كثيرا، باحترافٍ ظاهر، وهو الممتلئ بالجمال والحس الفني العالي.
لا تُغيّب المسافة أعلاه بين إلياس وأدبه، قصصه ورواياته (من بين نحو 30 كتابا له، ترجمات ومختارات ونصوص ومقالات وشهادات) المشتركات بينهما. ومنها الأناقة من قبل ومن بعد، أناقة الروح والموقف، وهو البيروتي في بعض شبابه، القومي العروبي (البعثي في طور قديم منه)، على الرغم من أرومته اليونانية. وثمّة الأناقة في نصوصه، والتي تعود إلى سمْته المتمهل، وقد سمّى نفسَه مرة كائنا "سلحفائيا" (وعمّانيّا عن حق). تُشعرك كتابتُه بحنبليّته في اتخاذه الكتابة فعلا جدّيا له استحقاقاته، وأولها الأناة والصبر الطويل (كان يحسُدني مازحا على كثرة كتابتي المقالات). يبدو رسّاما في كتابته القصة والرواية، خيّاطا أيضا. وربما، هذا ما جعل لغته نضرةً غالبا، ريّانةً، فيها ضوءٌ هادئ يشرق.. الأوضح فيها دائما أنها لغةٌ نديّةٌ، كما إلياس نفسُه، فيه فائضٌ من الندى، أين نلقى مثله وقد سافر إلى دار البقاء.