إلى أين تذهب حرب الاغتيالات المتجدّدة؟
تفتح حرب الاغتيالات الإسرائيلية لقيادات إيرانية باب التكهّنات لمروحة من الاحتمالات الممكنة للردود عليها، مع ملاحظة أن هذه الحرب لا تأتي من باب التقليل من المكانة التي تحتسبها إسرائيل أو حليفتها الولايات المتحدة لإيران في المنطقة، بل تأتي لتأكيد أن الصراع العربي الإسرائيلي في مفهومه السابق جرى تنسيقه، وتجاوزته إسرائيل بعد جولات التطبيع العربي المتواترة معها، ليحلّ مكانه الصراع الإسرائيلي مع "محور المقاومة" الذي تتزعّمه إيران، وهو الواقع الراهن المقلق لأمنها، الذي تريد تبديد أدواته الفاعلة، من خلال التصفيات التي تسارعت وتيرتها بعد عملية حركة حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، طوفان الأقصى، واغتالت قيادات إيرانية وموالية من الصف الأول لقادة متحكّمين في الملف العسكري في سورية ولبنان.
ومع اختلاف غاية إيران وهدفها في صراعها مع إسرائيل عن أسباب الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، فإن غرض محاولات الأخير لاستدراج إيران إلى معركة مباشرة معه وضع حد لمسايرة واشنطن طهران في ملفها النووي من جهة، ووضع قيود ضابطة لأدواتها المحلية، ومليشياتها الطائفية في كل من فلسطين ولبنان وسورية والعراق، لضمان عدم عرقلة نهج التطبيع العربي ــ الاسرائيلي، وتنامي سوقها الاقتصادية المهيمنة على المنطقة.
وقد تعلّمت إيران درساً موجعاً من حربها مع العراق التي استمرت ثماني سنوات (1980—1988)، من دون تحقيق أي منجز لأيٍّ من الطرفين اللذين تكبّدا خلال الحرب خسائر بشرية قدّرت بمليون ضحيّة من جنود ومدنيين، وكذلك اقتصادية فاقت 400 مليون دولار، ما أدّى بإيران إلى استنباط طرق جديدة في إدارة صراعاتها مع محيطيها، العربي والإسرائيلي، باعتمادها على أدوات محليّة رعتها ودعمتها عقائدياً ومالياً وعسكرياً، وتحوّلت إلى ذراع لها يدير مصالحها ويضمن حصتها في التحالفات المحلية والدولية.
خبرت إيران التكلفة المرتفعة للضربات الإسرائيلية في أراضيها، لجهة فقدانها هيبتها أمام شعبها، وارتفاع عدد الضحايا
الرغبة الإيرانية في بقاء المواجهات غير مباشرة مع إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، هي ما يجعلها تحافظ على وجودها العسكري خارج حدودها، في سورية ولبنان والعراق واليمن، أي تحويلها إلى ساحات مواجهة إقليمية ودولية، حيث تمكّنها هذه المواجهات خارج حدوها من تجنيب شعبها في إيران من مآلات الحرب، وبالتالي، تجنّب الغضب الشعبي على النظام الحاكم، وفي الوقت ذاته، الإبقاء على أبواب التفاوض ونوافذه مفتوحة، سواء لجهة استخدام الملفّ النووي الإيراني الذي تخشاه كل من إسرائيل ودول خليجية، أو ملف التهدئة في الساحات المفتوحة في كل من تلك الدول التي تدير شؤونها بيد مليشياتها المحليّة.
لقد خبرت إيران التكلفة المرتفعة للضربات الإسرائيلية في أراضيها، سواء لجهة فقدانها هيبتها أمام شعبها، وارتفاع عدد الضحايا، أو لجهة أن هذه الضربات تعطي المزيد من الجرأة لمعارضي النظام بالثورة عليه، ما يزيد من اتّساع رقعة التظاهرات ضده في مختلف المحافظات، وهذا ما يجعل أي ثمنٍ تدفعه خارج حدودها أقلّ بكثير من التكلفة في حال انتقال الصدام إلى داخل الحدود الإيرانية، وهو الأمر الذي يفسّر حفاظ إيران على ساحات حرب خارجية لها، تستطيع من خلالها تبريد جبهات النيران التي تفتحها إسرائيل عليها، والردّ من خلالها، بأقل تكلفة ممكنة، وهو ما جرى في حروب حزب الله ضد إسرائيل سابقاً.
تدرك إيران حجم قوتها بواقعية مطلقة، التي لا تقارَن بقوتي إسرائيل والولايات المتحدة جبهة مقابلة لها
ولا تسعى إسرائيل بضرباتها الجوية على أهداف إيرانية في سورية أو لبنان، أو اغتيالاتها لشخصيات إيرانية أو قريبة منها مؤثرة في المعادلة العسكرية أو النووية، لإعلان حربٍ مفتوحة معها، بالقدر الذي يمكن عدّه مجرّد محاولة لاستدراج إيران إلى التخلّي عما تسمّيه "الصبر الاستراتيجي"، وذلك لتعطيل أي تسوية محتملة بشأن الملف النووي مع الجانب الأميركي، وبالتالي مع المجتمع الدولي عموماً، الذي تراه إسرائيل يعوق هدفها بتحوّلها إلى دولة طبيعية رائدة في منطقة الشرق الأوسط، والذي يشكّل، في كل وقت، وعلى مختلف الأصعدة، تهديداً مباشراً لأمن إسرائيل من ناحية، ولاستقرار الحلفاء الخليجيين المحتملين لها من ناحية تالية. فبينما تعاملت إيران على مدار سنوات سابقة بنوع من الاحتواء الدبلوماسي للاستفزاز الإسرائيلي، بغرض إبقاء سياسة تكريس المواجهات غير مباشرة بين الطرفين، والحفاظ عليها خارج ما تسمّى "الحرب الصفرية" التي تطمح إلى هزيمة أحد المتصارعين بدخول الجيوش النظامية، كطرفين متقابلين خاضعين لقياس النصر والهزيمة، ذهبت إسرائيل إلى التصعيد مع حركة حماس إلى أقصى درجة بفتح حرب إبادة على الشعب الفلسطيني، بما يسمح بتصفية القضية الفلسطينية، ولعل محاولات تأزيم الصراع مع إيران بهدف تعرية حقيقة التحالف الإيراني مع "حماس"، وأيضاً مع ما يسمّى "حلف الممانعة".
تدرك إيران حجم قوتها بواقعية مطلقة، التي لا تقارَن بقوتي إسرائيل والولايات المتحدة جبهة مقابلة لها، وهذا ما أبعدها على مدار عقود الخلاف عن أي مواجهةٍ مفتوحةٍ معهما، ما يعني أنها، على عكس خطابها الإعلامي الذي تجاهر به، سواء لجهة إبادة إسرائيل، أو موت أميركا، فهي لا تعمل من أجل أن تكون أحد الخياريْن الموجودين على الأرض (إسرائيل أو إيران)، بل تسعى لأن تكون الخيار الآخر في المنطقة، عبر تأكيد موقعها الوجودي الذي لم تغامر به يوماً طوال 45 سنة من عمر الثورة الإسلامية في إيران، ولكن ذلك كله "ربما" لا يعني أنها لن تردّ على إسرائيل، بما لا يذهب بها إلى "حربٍ مفتوحة"، كما هي سياستها منذ عقود، وأيضاً لا يبقيها تعضّ على الجرح من دون أن تصرخ معبّرة عن غضبها، ولو شكلياً.