"المسار الديمقراطي" السوري بين تعزيز اللامركزية واتهامات الانفصالية
يُعدّ الجدل الذي أثاره مؤتمر المسار الديمقراطي السوري في بروكسل (25 و26 أكتوبر/ كانون الأول الماضي)، بدعوة من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، خطوةً مهمةً في تحريك المشهد السياسي السوري الصامت، أو شبه الميّت، منذ بدء حرب الإبادة الجماعية الوحشية التي شنّتها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزّة، والتي أتبعتها دولة الاحتلال بحرب وحشية ضدّ لبنان، في ظلّ صمت وعجز دوليين وعربيين.
أيضاً، يستمدّ هذا الجدل بشأن المؤتمر أهمّيته رغم انحسار (أو انكفاء) أيّ محاولة من أطراف دولية لتفعيل مسار المفاوضات بين النظام السوري ومعارضته السياسية. ورغم الخلافات المتصاعدة والمستمرّة بين الأطراف السورية على السواء، التي شاركت في أعماله، أو التي قاطعته، أو لم تُدعَ إليه، مع تأكيد أن المؤتمر لم يأتِ بجديد على ما طرحته الجهة الداعية له في مدار سنوات من حكمها العسكري لمناطق شمال سورية وشرقها، ودوّنته في ما سمّي "العقد الاجتماعي".
تعريف "قسد" بـ"الدولة السورية" متعدّدة الأقاليم لكلّ منها قدر من الحكم الذاتي، وضعها في مواجهة المعارضة والنظام
لكن، وككل مرّة يعقد مؤتمر مموّل من جهة "مدعومة خارجياً"، لم ينجُ المشاركون فيه (من تيّارات سياسية متنوعة) من مواجهة انتقادات تصل إلى منزلة التواطؤ أو التخوين، أو الاتهام بالإسهام في تعزيز الانفصالية. على ذلك، ما ميّز "المسار الديمقراطي" أنه سلّط الضوء من جديد على خلافات السوريين في مجمل القضايا الراهنة، والمستقبلية، التي تتعلّق بحلّ الصراع السوري، وشكله، ومنها، على وجه الخصوص، دور الحكم الذاتي للأكراد، وتأثيره في وحدة سورية ومستقبلها، وانعكاسات ذلك على تركيا، التي تَعدّ أيّ كيان كردي مجاور لها تهديداً لأمنها القومي.
وبغضّ النظر عن أن المؤتمر قد يكون بادرةً لتغيير المزاج السوري بشأن الحكم المركزي، وتحوّله نحو قبول فكرة اللامركزية، أو الفيدرالية (على أساس جغرافي)، ما يضمن إشراك المكوّنات السورية كافّة بشكل متساوٍ، مواطنين متساوين، في العملية السياسية، ومنهم الكرد، لأهمية ذلك في إيجاد إجماعات وطنية سورية جديدة، إلا أن الانطباع العام، في محصلة المداولات الحاصلة في المؤتمر، ذهب باتجاه أن "قسد" حاولت من خلال مؤتمر المسار الديمقراطي إيجاد شرعية سياسية لها، تمكّنها من حماية مكتسباتها العسكرية والميدانية، وتثبيت فكرة الحكم الذاتي لمناطقها، أمراً واقعاً، وأن على السوريين كلّهم تقبّل هذا الأمر، في أيّ تسوية سياسية مستقبلية.
هكذا، الدولة السورية التي تمهد "قسد" الطريق للتعريف بها، متعدّدة الأقاليم، يتمتّع كلٌّ منها بقدر من الحكم الذاتي، وهو ما وضعها في مواجهة معارضة من المعارضة والنظام في آن واحد، وبخاصّة أن الأخير يقدّم نفسه ضامناً لوحدة البلاد التي لم يبقَ منها اليوم، وفق الخريطة الحالية لسورية، إلا القليل. أي إن التوتّرات التي نتجت في أعقاب ما خلص إليه المؤتمر، بين ممثّلي "قسد" ومؤيّديهم من جهة، وأطراف المعارضة السورية التقليدية من جهة مقابلة، التي اتهمت المبادرة بأنها تعمل على تعزيز الفيدرالية القومية، جاءت متوافقةً مع مصلحة النظام السوري، وذلك بتأكيد اتهاماته للمعارضة بأنها تهدف إلى تفتيت سورية وفقاً لأجندات خارجية، وهو بذلك يحظى بتأييد الفئات التي تخشى من التقسيم.
ولعل النقطة الأكثر أهمّية، أن هذا التوجّه يتوافق مع المخاوف التركية حيال التطلّعات الكردية، إذ تعتبر تركيا أيّ تحرّك سياسي يمنح الأكراد صلاحيات حكم ذاتي في سورية تهديداً مباشراً على أمنها القومي، بسبب ما تعتقده من ارتباط وثيق بين قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمّال الكردستاني. ولهذا، قد تكون الرغبة الجامحة للرئيس التركي أردوغان في التطبيع مع النظام السوري خطوةً استراتيجيةً، وفقاً لرؤيته، للحدّ من طموحات الأكراد، وضمان أن أيّ مشروع فيدرالي في سورية، لا يمنح الأكراد حصّةً سياسيةً قد يؤدّي إلى تصعيد النزعة الانفصالية. وبذلك، قد يسهم التطبيع بين تركيا والنظام السوري في إحباط أيّ مشروع للفيدرالية القومية للأكراد في سورية.
لم يخرج "المسار الديمقراطي" عن نظام اعتادته المؤتمرات السورية
في مواجهة التوتّرات والمخاوف القائمة، والاتهامات المتبادلة، ربّما الأفضل للمعارضة أن تقدّم الفيدرالية الجغرافية أو "اللامركزية" بديلاً عمليًا مما تعتقد أن الجهة الداعية تريد انتزاع موافقتها على الفيدرالية القومية، التي تقوم على أسس عرقية، وبهذا تخفّف من المخاوف الإقليمية والدولية المحيطة بتقسيم البلاد. ومعلوم أن الفيدرالية الجغرافية، كما في النموذج النمساوي (على سبيل المثال) تتأسّس على تقسيم المناطق بناءً على أسس جغرافية وإدارية بحتة، وتمنح كلّ منطقة صلاحياتٍ إداريةً محلّيةً لإدارة شؤونها الاقتصادية والخدمية ضمن إطار الدولة الموحّدة، من دون أن تميّز على أساس العرق أو القومية، وهو ما يضمن التوزيع العادل للموارد بما يتناسب مع احتياجات كلّ منطقة، ويضمن، في الوقت ذاته، تنميةً متوازنةً تقلّل من الشعور بالتهميش الذي عاشته المدن النائية عقوداً طويلة، ويحافظ على سيادة الدولة المركزية، ما يعزّز استقرار الدولة ويحميها من التفكّك.
لم يخرج مؤتمر المسار الديمقراطي السوري عن نظام عامّ اعتادته المؤتمرات السورية، خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، فالجهة الداعية هي صاحبة اليد العُليا في التعبير عن رؤيتها وبرامجها وترويجها، ما يضع عنوان أيّ مؤتمر "ديمقراطي" مموّل من أيّ جهة كانت في ضفّة قد لا تبتعد عن ضفة ديكتاتورية مال أصحابه، إلّا أن ذلك لا يقلّل من أهمّية العودة إلى مناقشة شكل الحكم ونظامه في "الدولة السورية"، بما يمنح الأطراف السورية كلّها، ومنها الأكراد، حقوقهم الجمعية والفردية، السياسية والمدنية، ضمن نظام ديمقراطي يؤسّس للامركزية تمنح سورية فرصة البقاء في قيد الدولة، بديلاً من الكانتونات الحالية، بين النظام، والإدارة الذاتية، وهيئة تحرير الشام، والحكومة المؤقّتة، من دون أن ننسى وجودَ مناطق داخل هذه الكيانات كلّها، تحكمها عصابات التشليح والفساد، وكتّاب التقارير الكيدية.