إلى أين تتّجه البشرية؟

19 نوفمبر 2022

(جاذبية سري)

+ الخط -

قرأت قبل أيام عن رجل بلجيكي في الخمسين من عمره، اشترى كرسياً متحرّكاً خاصّاً بذوي الاحتياجات الخاصة، وارتدى ملابس نسائية وأخبر الناس حوله أنه قرّر أن يصبح امرأة مقعدة، وبرّر ذلك بأنه طوال حياته كان معجباً بأداء النساء المقعدات، ويحب أن يكون مثلهن. لا بأس، فليكن ما يشاء، لكن الأمر لا يقف هنا، الرجل بدأ يطالب البلدية بتغيير أوراقه الرسمية ليسجّلوا في ثبوتياته أنه امرأة مقعدة، وأظنهم سوف يرضخون لرغبته، فالقضاء البلجيكي سوف ينصفه حسب القوانين المتّبعة في حال قرّر أن يخوض معركة قضائية لإثبات حقّه في أن يكون ما يريد.

قبل ثلاث سنوات، فُصل بروفيسور جامعي من إحدى جامعات ألمانيا لأنه أصرّ على أن يخاطب طالباً شاباً لديه بصيغة المذكّر، لكن الشاب كان قد غيّر بياناته سابقاً، وسجّل في خانة الجنس: مختلط، ما يعني أن على من يخاطبه أن يستخدم ضميراً لم يوجد بعد في كل اللغات، إلا لو تم اعتماد ضمير الجمع للمخاطب أو الغائب (أنتم وهم) وما يعادلهما في اللغات الأخرى. دافع البروفيسور عن نفسه بأن الشاب لم يجر عملية تحويل للجنس ولم يعدّل هرموناته، لكن القضاء أنصف الحرية الفردية المتطرّفة للشاب في شأنه الشخصي ضد منطقية البروفيسور ومنهجه الواقعي.

يطالعنا إعلام العالم يومياً بأخبار غرائبية مشابهة، فثمّة رجل في كندا قرّر أن يصبح كلباً، وبدأ يمشي على أربع وينبح بدل الكلام، وأجبر زوجته على أن تقدّم له الطعام كما تقدمه لكلبهما. انفصلت زوجة الكلب المفترض عنه مباشرة، فهي كانت قد تزوّجت رجلاً لا كلباً، (لحسن الحظ أن القوانين الكندية تعطي لها هذا الحق). وهناك امرأة فرنسية قرّرت أن تتزوّج نفسها، ذهبت إلى البلدية وهي ترتدي في نصفها الأيسر ثياب رجل والنصف الأيمن فستان عرس، ووضعت طرحة بيضاء على نصف رأسها من ناحية اليمين، وسجّلت لها البلدية زواجها من نفسها، وأصبحت بذلك أول امرأة في التاريخ تعقد قرانها على نفسها.

شاهدت مقطعاً مصوّراً لعرس عربي. ترتدي العروس فستاناً رمادياً عادياً والعريس الشاب يرتدي بدلة بيضاء، ويضع هو الطرحة الطويلة التي يجرّها الأطفال، واللافت أن المدعوين يتصرّفون كما لو أنهم معتادون على شيءٍ كهذا. شعرتُ وأنا أشاهد ما يحدُث أنني أنا ربما التي أصبحت رجعيةً أو خارج الزمن لأنني أُصبت حقّاً بدهشة بالغة من المشهد.

طبعاً، لم تعد حفلات زفاف المثليين تثير الاستغراب، فهي أصبحت أمراً معتاداً في كل العالم الحديث، خصوصاً وأن المناهج التعليمية في العالم المتقدّم ألغت من مناهجها أن الزواج والجنس يتمّان بين الذكر والأنثى، مستبدلة ذلك بصورة حديثة عن العائلة التي قد تكون رجلين وطفلاً أو امرأتين وطفلاً، في إعلان صريح عن عبور الهوية الجنسية التي كانت تحدّد ماهية الكائن الحي نحو هوّيات أخرى، أو نحو اللاجنسانية المتطرفة.

هل ثمّة سقف للحريات الفردية يمكن أن نقول معه إن ما يحدُث لا يمكن أن يتجاوزه شيء؟

في تقديري أن عالمنا الحديث يرسّخ يوماً بعد يوم عزلة البشر، ويسهم في تكريس الفردانية المطلقة كقيمة أولى، وهو ما ينتج عنه التطرّف في التعامل مع الذات، بوصفها ذاتاً مستقلة يحتويها جسدٌ مستقل، هذا التطرّف يمكنه أن يصل إلى أماكن قد لا تخطر في البال، من كان يوماً يتخيّل أن نرى رجلين يتزوجان علناً أو امرأة تتزوّج نفسها؟ الفكرة أن سلوكات كهذه كانت دائماً تخطر في بال أصحابها، بمعنى أن المثلية كانت موجودة على مرّ الأزمان، كما أن الجنس عموماً اتخذ عبر الزمن أشكالاً بالغة الغرابة، وقد نقرأ في التراث البشري الجنسي المدوّن (ومنه العربي) تفاصيل مذهلة، ما يحدث اليوم هو حرية إعلانها وقوننتها واعتبارها من الحقوق الفردية للكائن البشري التي لا يجوز المساس بها بأي شكل.

هل سيصل الأمر بالبشر إلى الزواج من حيواناتهم الأليفة بعد أن بدأوا بالتشبّه بها؟ تخيّلوا مثلاً أن تحدُث طفرة في الجينات، وينشأ مولود من نسل حيواني وبشري معاً؟ لو حدث هذا فذلك يعني أن دورة الحياة على كوكب الأرض ستعيد نفسها، وأن الأساطير التي عرفتها البشرية ستصبح واقعاً، فالزمن يخبر أن ما من شيء تخيّله البشر إلا وأصبح حقيقة.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.