إقطاعية الإعلام المافياوي في سورية "المتوحّشة"
اتسم الواقع السوري بانغلاقٍ شديد لا يُتيح للعالم معرفة ما يجري في داخله بسهولة، وهو الأمر الذي سوّقه النظام الحاكم ميزة نسبية تحت مسمّى "الاستقرار". زاد المشهد ضبابية أنّ لغة الإعلام الرسمي تضمّنت رموزاً تخضع لتفسيرات متباينة، ذات قيمة تاريخية وثقافية للسوريين، بُخّست عندما رُبطت بشخص الرئيس بشكل عضوي، لا فكاك منه ولا مناص. وعليه، من البديهي أن تتصدّع هذه اللغة، مع الصرخات الأولى المطالِبة بالحرية، والتي اعتُبرت عتبة عبور مقدّسة نحو عالم ينتفي فيه التوحش، كإعلانٍ صريح للردّة عن الطقس الرسمي المتمثل بـ"تعظيم الأسد"، فاستدعى الإعلام، وبشكل إسعافي، عبارات من قبيل: "الفتنة الطائفية"، و"الإمارات السلفية"، التي كانت تُعَدّ من المحرّمات في الخطاب السائد، حريصاً على تعميم مشهديّات بصرية مشوهة، تجاوزت في معظمها الدلالة اللغوية إلى دلالة رمزية طيفها "السامّ" أوسع وأبعد.
بالتالي، أدت حالة الجمود التي سادت منذ نهاية الستينيات إلى تكلّسٍ في بنية المجتمع السوري، عزّزه هذا الإعلام المتسلّح بـ"مقصّ الرقابة الكريم"، الحريص على إقصاء كلّ ما قد يشوّه سمعة "الزعيم" أو يلطخ صورة "مزرعة الأسد السعيدة". ولا غرابة، على الإطلاق، أنه ما زال يُمعن في التمسّك بقاموسه اللغوي الفقير، خارجاً عن كلّ الأبجديات الإعلامية، يكرّر "الكليشهات الصدئة" إياها، من دون أدنى اجتهاد، فبات واقعه، اليوم، أزمة مأساوية لم يعد بإمكان أحدٍ قولبتها، أو قراءتها واختصارها في موقف بحثي، أو تقرير إعلامي، أو استقراء فكري، أو تنظير سياسي محدّد، بعد التقزيم والتشويه والعمل المتواصل لإسقاط المرجعيات الأخلاقية في الوطن السوري المنكوب، بهدف إعادة تدوير قواعد العضوية الوطنية (مَن الوطني، ومَن المتهم بـ"توهين نفسية الأمة"). هكذا، وبالتقاطع مع السياسات الأمنية القمعية، عُزل السوريون عن بعضهم بعضاً، وأشبع الفضاء العام بشعاراتٍ وإيماءات زائفة ومتعبة لمن ينتجها ويستهلكها على حدّ سواء، رغم حدوث "انتفاضة لغوية" بعد عام 2011 أخرجت الخطاب السوري العام من بعض قوالبه وأُطره المصمتة إلى فضاء كسَرَ "الكودات" والترميزات، إذ ولَّدت "الفَوْرَة" الإعلامية الاستثنائية التي واكبت وتَمَاهَت مع الثورة تأثيرات على الذهنية السورية الجامدة تجلَّت في خلق "بديلٍ حيوي كاريزماتي" لإعلام كرَّسه نظام مركزي يُهيمن على همسِ السوريين ويكتم أنفاسهم.
لم يكتف نظام الأسد بمعاقبة من ينتقده، بل تخطّى ذلك إلى معاقبة كلّ من انتقد دولاً صديقة له
ومن الضرورة بمكان الإشارة إلى أنّ جهود الصحافة والإعلام قبل حكم "البعث" كانت جبارة، ولعبت دوراً محورياً في نشر حركات اليقظة والنهضة العربية لتغدو سورية آنذاك أيقونة التحرّر، وشهدت إذاعة دمشق انطلاقة أول صوت نسائي، هدى شعراوي، التي كانت تطرح وتناقش عوالم المرأة العربية. المحزن اليوم أنه، وبحسب منظمة مراسلون بلا حدود، والتي أصدرت تصنيفها السنوي لحرية الصحافة لعام 2023، تحافظ سورية، مجدّداً، على صدارتها أخطر بلدان العالم على سلامة الصحافيين. وتبدو "لعبة القط والفأر بين الإعلام والسلطات" العنوان الأبرز لهذه "الإقطاعية المافياوية" الموبوءة بالأمراض واللعنات، والتي تشبه عالماً سفلياً تُنتهك فيه كلّ المحظورات والضوابط، إذ يُجمع كثيرون ممن عملوا في مؤسّساتها على أنّ قرارات التعيين لم تخضع إلا ما ندر للتقييمات المهنية، وأنها كانت دائماً مرتبطة بسياقٍ طويل من سيطرة المحسوبيات الأمنية والمخابراتية. وعادة ما يتكرس هذا الأمر، ويصبح منهجاً في ظلّ وجود نظام "مياومة"، كبديل ما ورائي عن دولة القانون والمؤسّسات، لا يملك الإعلام فيه شيئاً من مقوّمات الإصلاح الذاتي إلا بقدر ما تملك السلطة، فأنظمة شمولية كهذه، بطبيعة الحال، تعمل ليومها ولشخصها، لا لغدها أو شعبها.
فعلياً، لم يقتصر دور إعلام الأسد على التحريض والدعاية والحشد، بل سعى إلى إنتاج خطابِ "المطاوعة" لنظام فاقد الشرعية، وإن أخطأ أحدُهم أو خانه التعبير أو نشرَ مادّة "مضلّلة" لا تتفق مع سردية السلطة الحاكمة، هنا تبرز فرصة ذهبية "للقنص والتصفية" لن تفوّتها الأخيرة بالسهل. ويأتي خبر إقالة وزارة إعلام نظام الأسد مديري قناتي "الإخبارية" و"السورية" الرسميتين أدلّ مثال على هذا، وذلك بعد "خطأين فادحين"، وقع أحدهما بعد استضافة "الإخبارية" الكاتب المصري يوسف زيدان، المتهم بالتطبيع مع إسرائيل، والآخر أقيل بعد بثّ برنامج "الكابتن" الذي أوقف عرضه، حيث ظهر مقدّم البرنامج وهو يقرأ بتلعثم واضح تقريراً من صحيفة "البعث" الموالية بشأن الاستثمار في مطار دمشق، فاضحاً المستور من دون قصد منه: (كثيرون تساءلوا عن هوية الشركة الخاصة المستثمرة في ظل "السيطرة" الإيرانية والروسية على مناطق الحكومة...). وثمّة من أكد أنَّ لونا الشبل، المستشارة الإعلامية لرئيس النظام السوري، هي من فرضت على وزير الإعلام قرار الإقالة، وهي من عيَّنت المديرين الجديدين.
جاءت الثورة السورية لتخلع أبواب السجن المغلق العصيّ على التغيير، وتكون امتداداً طبيعياً للتاريخ والتجربة الاجتماعية والسياسية السورية
يصف الصحافي اللبناني عبد الغني العريسي حساسية دور الإعلام: "ما من أمة قيّدت صحافتها وحجزت حريتها، إلا وفسدت أخلاقها وتزعزعت أركانها، وأصبحت لا ترى إلا مساكنها". في السياق، لا يخفى على أحد أنّ نظام الأسد لم يكتفِ بمعاقبة من ينتقده، بل يتخطّاه إذا انتقد دولاً صديقة له، كما حصل مع الكاتب علي العبد الله الذي سُجن مع باقي أعضاء إعلان دمشق، وبعد انقضاء فترة سجنه حُوكم بقضية أخرى، وهي نقده طريقة الانتخابات الإيرانية التي وجد بها النظام إساءة وقحة لحليفته! وعليه، من الاستحالة أن يُفهم تكنيك الإعلام السوري من دون النظر إليه أنه إعلام تسلطي، يستمد مشروعيته من تغوّل السلطة في سورية "المتوحّشة"، على حدّ تعبير ميشيل سورا، بدلالة أنه ما إن اندلعت المظاهرات في محاولة استبدالية صريحة لشعارات السلطة والهيمنة، لتغدو انفجاراً موضوعياً لكلّ التناقضات القائمة، بين المادي والرمزي، وبين الخطاب والفعل السياسي، حتى استُنْفر إعلام الأسد، الذي أُخذ على حين غرَّة، إلى رسم استراتيجية إعلامية تشويهية لما يحدُث. ولا ضير، بالطبع، من ابتكار مشاهد درامية مفبركة تُلَقّم عبر فعاليات الامتثال القمعية، كأداة ضبط تفرز سياسة الخداع العام التي يتصرّف المواطنون بها "كما لو" أنهم يحترمون قائدهم، وإلا فحياتُهم ستبدأ بالسجون وتنتهي بالمقابر.
صفوة القول... تحوّلت السرديات الإعلامية السامّة في الخطاب الرسمي لنظام الأسد إلى شكلٍ من أشكال القوة، يقرن "اللغة العامة" كعنف رمزي، كما يسمّيه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، بالعنف المادي، وهو ما يجعل الحالة السورية عصيّة على التفسير أحياناً. في المقابل، وإذا كنا نتماهى مع الصيحة التي أطلقها ابن رشد لدى حرق حراس الظلام كتبه، آنذاك: "الأفكار لها أجنحة وهي تطير"، ربما من المفيد اليوم تذكير القائمين على إعلام الأسد بهذه المقولة الخالدة التي تحضّ على أنّ أوان تغيير "التعابير والقواعد التحريرية المبتذلة" قد حان، رغم "فلاتر التلميع والتزييف" التي عملت على نشر الأيديولوجيا المُبهمة للتأثير على المخيال العام، بغرض إرباك السوريين وتشويه صورة المؤسسات المكلفة بكشف الحقائق. ذلك كله لترويج "الأوليغارشية الأسدية"، التي عملت على تحويل السوريين إلى دمى متشائمة غير قادرة على التنفس، حتى جاءت الثورة السورية لتخلع أبواب السجن المغلق العصي على التغيير، وتكون امتداداً طبيعياً للتاريخ والتجربة الاجتماعية والسياسية السورية. ورغم أنها لم تنضج بعد، فإنها حققت، لا شك، اختراقاً استراتيجياً مهماً في جدار الصمت والخوف والتوحش.