إعلام وإعلاميون

13 اغسطس 2022
+ الخط -

الإبداع جزء من حريةٍ تجد نفسها خارج زنازين القوقعة الفكرية. وكما أن من يفاجئ نفسَه بفعل شيءٍ لم يفعله قبلاً، وفق مبدأ "واجه مخاوفك"، كذلك فإن الإبداع في عالم الصحافة والإعلام شيء لا بد منه وضروري وحتمي. لستَ مضطرّاً لقراءة العبارات نفسها أو سماعها، مثل "عيد بأية حال عدت يا عيد؟"، ولا حتى الحديث عن "دبّ روسي" و"تنّين صيني" و"نسر أميركي". يمكن لنا الابتكار، والاطلاع على أبياتٍ شعريةٍ أخرى لأبي العلاء المعرّي وغيره، ودراسة تاريخ (وثقافة) الروس والصينيين والأميركيين وغيرهم، لإطلاق صفات أخرى عليهم. يمكن لنا اختراع عباراتٍ نابعة من فهمنا لمطلق موضوع وفقاً لثقافة متطوّرة، لا وفقاً لتكرار ممجوج.

لكنّ الإعلام المتغير في عالمنا لا يفهم جدوى الاطلاع على المعلومات أو تطوير البعد الثقافي والجغرافي والتاريخي لمن يعمل خصوصاً في الإعلام السياسي. لا يمكن نسيان بعض إعلاميي المعسكر الغربي في بدايات الغزو الروسي لأوكرانيا وحديثهم عن "أشخاص يشبهوننا يفرّون من الحرب"، ولا تناسي الجماد الثقافي في النظرة الغربية إلى الشعوب الأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية، وضمناً العربية. لا يمكن أيضاً تجاهل أنّ هذا العالم لا يقيس الملفّات بالعين نفسها، بل ضمن منطوقٍ غير حيادي. كلّ هذا مفهوم. لكن في بلداننا العربية، بعض الإعلام لا يرغب في التطور أو التعلم ولا حتى الاطلاع على وجهات نظر متعدّدة في أي خبر أو رواية.

في أوكرانيا مثلاً، ذهب بعضهم للتغطية هناك من دون خلفية ولا ثقافة مجتمعية ولا إدراك موقع أوكرانيا على الخريطة. ومن هناك، كان يفترض به أن يُطلع العالم العربي على ما اكتشفه مع خلفية تاريخية مبنية على قراءات، لا على نقل خبر ورد في مكان آخر. وإذا كانت أوكرانيا بعيدة، فإنّ إعلاميين كثيرين لا يرغبون في فهم طبيعة الصراعات في لبنان والعراق وليبيا واليمن، وأيضاً لا يفهمون أنّ الثابت في القضية الفلسطينية هو "احتلال إسرائيلي" لا أخطاء الفلسطينيين مهما تعدّدت.

عدا عن ذلك كله، لا يضرّ تملّق الإعلاميين بجوهر الإعلام والصحافة، بقدر ما يضرّ المتلقي (الرأي العام)، الذي لم يعد مجرّد شخص يسمع ويشاهد ويبرّر، بل بات يحلل ويقتنع بأن ما يخرج من هذه الفئة من الإعلاميين هو موقف سياسي منحاز. يؤدّي ذلك كله إلى جماد إعلامي، في موازاة تحرّك فكري للمتلقين. وبما أنّ الوصول إلى المعلومات أضحى متوفراً في وقتنا بصورة هائلة، قياساً على عقد التسعينيات مثلاً، فإنّ على أي إعلامي أن يسعى إلى تطوير ثقافته وسبل تفكيره، فلا يُمضي يومه في العمل ثم في الحياة الاجتماعية، ويتغاضى عن معالجة نقاط ضعفه في أي ملفٍّ دولي أو محلي.

لكلّ منا في بلده مجموعة من الإعلاميين الذين يهدفون إلى "التطبيل" لمن يميلون إليه سياسياً، أو بفعل "الهدايا" التي لا تنضب. هذا عدا عن أنّ هذه الفئة من الإعلاميين تعتقد أنّ الإعلام علاقات عامة لا أكثر. ناهيك بمجموعة من المحللين، تراهم يقولون الشيء ونقيضه في غضون 24 ساعة، فقط للبقاء في دائرة الضوء، وفق قاعدة "لا يهمّ ذلك طالما أنني أظهر على وسائل الإعلام". إنّها كوميديا المحللين.

لا يحتاج الإعلامي إلى سنوات للدراسة الجامعية، بقدر ما يحتاج إلى التعمّق في كلّ خلفيات مطلق خبر أو قضية، سواء على مستوى العلوم الاجتماعية أو كيفية تطور عناصر كل حدث أو في منابع تاريخ هذا الحدث. انطلاقاً من هنا، يصبح سهلاً فهم كيف أن الديمقراطية، بشكلها العمودي، مؤسّسةً للتحرّر بشكله الأفقي، ومؤثّرة في طبيعة كسر كل ما هو خطأ في نمو الشعوب. وبما أنّ من أهم مبادئ الحياة "ضع نفسك مكان الآخر"، يصبح مفهوماً المطلوب من كلّ الإعلاميين: القراءة أكثر.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".