إعلام بلا ضمير ودراما لتضليل الشعوب

03 مايو 2023
+ الخط -

الدراما والإعلام من الوسائل الهامة التي تستخدمها الحكومات والمعارضة على السواء، وبقدر جودة تلك المنتجات وذكاء الرسالة وتوقيتها يكون التأثير. ولذلك هناك معاهد ومؤسسات كبرى تعمل فقط على دراسة (وتحليل) البيانات والمدخلات والمزاج العام ليتم إنتاج أعمال فنية ودرامية وتوجيه رسائل من خلالها. وقد شاهدنا أعمالاً فنية كثيرة شديدة الاحترافية فيها كثير من الرسائل المبطنّة وتخاطب اللاوعي في الأساس. وحتى أفلام الرسوم المتحرّكة لا تخلو من ذلك، فشاهدنا قبل سنوات أفلام "أنيميشن" قد تبدو أنها للصغار، لكنها تتضمّن رسائل تحمل قيما مختلفة بشأن قضايا غاية في الحساسية. وقد جرى منع بعض أفلام الكارتون في دول عربية عديدة بعد تشكيك رسالته في فكرة الأديان والبعث والحساب، وإن لم يمنع ذلك تداول تلك الأفلام على مواقع الإنترنت، رغم منعها من العرض في دور السنيما.

وحضرت في الدراما المصرية في رمضان المنقضي أخيراً رسائل كثيرة صريحة وخفية، وإثارة لموضوعاتٍ كان مسكوتاً عنها، فشاهدنا طرح موضوعات جديدة في ما يشبه رسائل موجّهة، بشان قوانين الأحوال الشخصية ومشكلات الزواج والطلاق والوصاية على الأطفال بعد وفاة الزوج. كما تناول قضايا الميراث والعنف ضد المرأة. وعلى الرغم من كم الرسائل الهامة التي أثارتها الدراما المصرية هذا العام، والتي تعدّ مؤشّراً لتوجه السلطة ونياتها بخصوص تلك القضايا والقوانين، هناك من استنتج نيات الحكومة لتغيير بعض القوانين المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث والوصاية على الأطفال القصّر، عن طريق إحداث حالة نقاش مجتمعي يمهّد لتلك التعديلات المرتقبة.

كما صاحب المسلسلات ذات الطابع التاريخي جدلٌ كثير بشأن مدى مطابقة الأحداث والوقائع للتاريخ الحقيقي، فقد طغت الدراما والفانتازيا على الأحداث التاريخية، وكانت هناك رسائل سياسية واجتماعية عديدة مرتبطة بعصرنا الحالي، قد تم إدماجها في أحداث المسلسلات التاريخية، أثار بعضها جدلاً كبيراً، خصوصاً عندما أقحم آراء سياسية بدون داع أو ضرورة درامية. وفي مسلسل كان يفترض أنه عن وقائع في الحملة الفرنسية على مصر، أثار جدلا كبيرا بسبب كثرة الأخطاء الفنية وعدم تماسك السيناريو والسردية، أو وجود أخطاء في الأزياء والديكور والأماكن، بالإضافة إلى إقحام أحداث سياسية حديثة، لا تزال تحظى بجدلٍ وخلاف شديديْن، خصوصا أنها تحمل وجهة نظر السلطة الحالية وسرديّتها المكرّرة، رغم أنها أحداثٌ قد تسبّبت في انقسام كبير في المجتمع المصري حينها.

شاهدنا أعمالاً فنية كثيرة شديدة الاحترافية فيها كثير من الرسائل المبطنّة وتخاطب اللاوعي في الأساس

ورغم عيوبه، ذكّرني هذا المسلسل بواقعة تاريخية كنتُ قد قرأت عنها قديما، وأصابتني بحزن شديد. تناول المسلسل تجسيدا لمعركة حامية بين الفرنسيين ورجال إحدى القرى الريفية المصرية. يتشابه ذلك، بعض الشيء، مع حادثة حقيقية حدثت في وقت الحملة الفرنسية على مصر، وهي حادثة التنكيل بالبطل المناضل مصطفى البشتيلي، وقتله على يد عيسى العوام وبعض أنصاره، وذلك بعد هزيمته أمام العسكر الفرنساوية. والبشتيلي تاجر كبير كان يعيش في حي بولاق القديم في وسط القاهرة القديمة، رفض الانصياع لأوامر الحملة الفرنسية على مصر، وقرّر الانضمام لصفوف المقاومة، اعتقلته عام 1799 القوات الفرنسية بعد ضبط بارود في مخازنه كان يتم تجهيزه للقيام بحملات لمقاومة الفرنساويين، يقول الجبرتي إن الوشاية كانت السبب، فقد جنّد الفرنسيون عددا كبير من المصريين لخدمتهم. لم يمكث في الحبس طويلا، فقد تدخّل أعيانٌ لدى السلطات الفرنسية من أجل الافراج عنه، وعاد بعدها إلى حياته وأعماله في حي بولاق. ثم كان له دور قيادي في ثورة القاهرة الثانية عام 1800، كان يقود المقاومة الشعبية ويساعد في صناعة الأسلحة والمتفجّرات وإقامة معامل البارود وصبّ القذائف، وكان له دور في تهييج الجماهير في حي بولاق وقيادتهم لمهاجمة خيم العسكر الفرنسيين، ونهب مخازن الغلال الخاصة بهم، واستخراج المدافع القديمة المدفونة وإعادة استخدامها وإقامة مصانع لتجهيز القذائف والمتفجرات، إلى درجة جمعه الأواني من المنازل والأهالي وقتها. وحاول الفرنسيون الاستعانة بمشايخ الأزهر والأعيان من أجل وقف ثورة القاهرة والصلح، ولكن الثوار رفضوا، وأهان بعضهم الشيوخ والوسطاء. وحاول الفرنسيون عرض الصلح مرة تلو الأخرى، لكن الثوار رفضوا كل المحاولات. وكتب الجبرتي أن الثوار رفضوا الصلح ظنا منهم أن الفرنسيين يطلبون الصلح خوفا من الهزيمة، ولذلك كان ردّهم قاسيا على الرسل. وهجم الفرنسيون من كل الاتجاهات بعتاد أكبر وأكثر تحديثا، واستغلّوا الأمطار الغزيرة وقت المعركة. وبعد اجتياحهم حي بولاق، ارتكبوا أفظع المجازر، وكانت الجثث في الطرقات عدة أيام، حتى من لم يقاتل لم يسلم من الأذى، فقام الفرنسيون بالسلب والنهب وانتهاك الحرمات في إجراء عقابي جماعي. وكانت نهاية المناضل مصطفى البشتيلي مؤسفة، فقد أرشد عنه جواسيس داخل حي بولاق وقُبض عليه، وتم احتجازه فترة وعاملوه بأبشع الأساليب. أما موته فقد ظلوا عدة أيام يجرسونه (الطواف به مقلوبا عاريا على الحمار في الشوارع)، وأوعزوا للعامة أن البشتيلي هو سبب الخراب والضرر الذي أوقعه الفرنسيون، لأنه هو الذي أصر على التمرّد والخروج على السلطات. ومع تلك الحالة من الشحن والتجريس ضد البشتيلي، انقضّ بعض العامة عليه وضربوه بالعصي والنبابيت حتى مات. وكان بعض من قتلوه من أنصاره ومن قاتلوا معه، ولكن هناك من يلجأ، بعد الهزيمة والدعايات السوداء، لإلقاء اللوم على الضحية أو الطرف الأضعف، أملا في النجاة من بطش المنتصر أو حيلة لخداع النفس.

الإعلام والدراما أداتان يتم استخدامهما في معارك عديدة، وتدرك السلطة الحالية في مصر ذلك جيداً

ذكّرتني تلك القصة بما حدث لأحمد عرابي، قائد الثورة ضد الخديوي توفيق، والذي قرّر محاربة البريطانيين عند دخولهم مصر عام 1882. ورغم أن الاحتلال البريطاني لمصر جاء بموافقة حاكم مصر وقتها، الخديوي توفيق، واستقوائه بهم ضد عُرابي والوطنيين وقتها. وبعد تخفيف عقوبته ورفاقه من الإعدام إلى النفي خارج البلاد، عاد عُرابي من المنفى بسبب ظروف مرضه، وأيضا بعد إرساله رسائل إلى ملكة إنكلترا، وأيضا إلى الخديوي في مصر، يطلب العفو عما فعله ويطلب العودة إلى وطنه. وبعد عودته قابلوه بفتور، ففي أثناء نفيه، كانت الدعايات السوداء ضده على أشدّها، وتم تحميله أسباب الاحتلال البريطاني وكل الشرور بسبب خروجه على الحاكم، فتطاول العوام عليه في أحيانٍ كثيرة، وكان بعض الناس يسبّونه ويتهمونه بالخيانة، ويبصقون عليه في الشوارع، حتى قرّر عدم الخروج من بيته حتى الموت، وتحالفت الصحف في ذلك الوقت في هجائه وإهانته، ومات فقيرا إلى درجة أن عائلته أخفت خبر موته يومين، حتى تتمكّن من صرف المعاش. ولم تتحسّن سيرة أحمد عرابي إلا بعد تولي سعد زغلول باشا رئاسة الحكومة عام 1924، فبدأت الصحافة تروي القصة الحقيقية بدون تخوينٍ وشيطنة، ولم تتم الإشادة به واعتباره بطلا قوميا إلا بعد عام 1952 عندما تولّى الجيش الحكم في مصر، وأبرزوا قصة عرابي بصفته قائدا عسكريا تمرّد على القصر وتعرّض للمؤامرات.

الخلاصة أن الإعلام والدراما أداتان يتم استخدامهما في معارك عديدة، وتدرك السلطة الحالية في مصر ذلك جيدا، وهذا ما يفسّر أن هناك جهة واحدة هي المسؤولة عن الإنتاج الدرامي في مصر، وكيف أن كل الأعمال الفنية والدرامية لا بد أن تتم من خلال جهة واحدة أو بمباركتها على الأقل، فهناك رسائل ترغب السلطة في تمريرها، وهناك معارك ترغب السلطة في جذب التأييد الشعبي لها قبل خوضها، وهناك أحداث أو قيم أخرى لا ترغب السلطة في ذكرها، لأن من الممكن أن تقود الناس إلى التفكير بشكلٍ مستقل، وهو ما قد تترتب عليه تحرّكات جادة للمطالبة بالحقوق والحريات.

أعطني إعلاما بلا ضمير أعطيك شعبا بلا وعي، هذه العبارة المنسوبة لغوبلز، وزير الدعاية النازية في عهد هتلر، وسواء قالها حقا أم لم يفعل، إلا أنها حقيقية وعايشناها بأنفسنا.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017