إطلالة وليد سيف
أسابيعَ، بعد إصداره أحدث نصوصِه الروائية، "الشاعر والملك" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2022)، ضمن مشروعِه حاليا، إنجاز رواياتٍ مبنيةٍ على أعمالٍ دراميةٍ له، أطلّ وليد سيف، أخيرا، على شاشة "الجزيرة"، في جزأين من برنامج "المقابلة". ولا يتزيّد صاحب هذه الكلمات لو قال هنا إن غبطةً أحرزها لمّا قرأ، قبل أيام، العمل السردي، المُبهج في كلاسيكيته وعلوّ لغته وحرارته الدرامية، عن الشاعر طرفة بن العبد، وقد أُنتج المسلسل في العام 1982 (إخراج صلاح أبو هنود، بطولة محمد العبادي وعبير عيسى)، ثم صارت الغبطة باهظةً، حقّا، لمّا أنصتُّ إلى الكاتب والسيناريست والشاعر، وليد سيف، وهو يتحدّث عن الدراما (التاريخية) كيف يكتُبها، وكيف يبني شخصياتِه المركّبة المتعدّدة الأبعاد، وكيف يذهب إلى التاريخ بصفته ماضيا موصولا بالحاضر، وكيف يبحث في الحوادث والوقائع، ثم يدقّق فيها، وكيف يتعامل مع اضطراب الروايات لدى القُدامى، ولهم انحيازاتُهم في أزمنتهم، وله، كاتبا في زمنه، انحيازاتُه إلى الحقيقة، وإلى معانٍ ومُثلٍ، وإلى الوجهة النقدية في الإطلالة على التاريخ، من دون أن يخلّ بالسياق التاريخي للشخصيات التي يحرص على تقديمها بالعوامل المختلطة التي تتنازعها. ومن هنا، لم يفعل وليد سيف شطَطا، لمّا وصفَ، في محاورته التلفزيونية هذه، تراجيديا طرفة بن العبد (في المسلسل أم في "الشاعر والملك" أم في حقيقتها وقائع وحوادث؟) بأنها عظيمة. وأجتهد وأقول، هنا، إن موضع العظمة فيها أن الشاعر الذي كانت قوته في بلاغته ومنطوقه وجد بطولتَه في الخروج عن قبيلته، وفي لفظه استضعافَها نفسَها. راوده، وهو الفتى العاري من غطاء القبيلة والعائلة، الحلم بالمُلك، فخسر، ثم خسر حياته، بإباءٍ عالي التراجيدية، تمثّلت فيها إرادتُه الحرّة التي عذّبته وأهلكته. صاغ وليد سيف هذا كله، وكثيرا غيره، في صفحات روايته، بوفاءٍ ملحوظٍ للواقعة التاريخية، وبابتكار مساحاتٍ شاسعةٍ للتخيّل، وباستيحاءاتٍ تذهب إلى المسافات بين الجمعي والفرداني.
إجابات وليد سيف، في الجزء الثاني من "المقابلة" معه، عن الدراما التلفزيونية، وتجربته الطويلة (والمميزة لا ريب) فيها، مادةٌ مهمةٌ لإرشاد كتّاب الدراما عموما، التاريخية خصوصا، وقد بدَت إيجازا لعامّة مشاهدي التلفزيون، ربما (أو إلى حدٍّ ما؟) لما بسَطه صاحبُنا في نحو 40 صفحة في الفصل المعنون "حياة مع الدراما"، في كتاب سيرته "الشاهد المشهود .. سيرة ومراجعات فكرية" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2016). الكتاب الذي استأنس منه علي الظفيري في طرح بعض أسئلته الحاذقة على ضيفِه، الأكاديمي التربوي الأستاذ الجامعي، اللغوي صاحب الاختصاص في الصوتيات واللسانيات، الشاعر، "الفتحاوي" طوْرا قصيرا، كاتب الدراما التاريخية الأبرع عربيا. أقول إن الذي أفضى به أستاذُنا في "الجزيرة"، بعد تلك الصفحات في الكتاب، مطالعةٌ كاشفةٌ، وعلميةٌ بالغة النفع، لكل من يريد أن يتوسّل الدراما (بتنويعاتها الاجتماعية والتاريخية وغيرهما) وكتابتها. ومن كثيرٍ رفيعٍ في "الشاهد المشهود .." مما قرأنا إن "كل حياةٍ هي روايةٌ دراميةٌ مؤثّرة، إذا تأتّى لها من يُحسِن سردَها". وهناك، في الكتاب، جاء وليد سيف على العلاقة التبادليّة بين المخرج وكاتب النصّ، وعلى صاحب الإخراج الهزيل الذي يهبِط بالنصّ الممتاز، وأنه "إذا اجتمع النص القويّ مع الإخراج الفائق، بلغ العمل غايته". وفي "المقابلة" كان رائقا من صاحب "قصائد في زمن الفتح" (مجموعته الشعرية الأولى، 1969)، قوله عن احترامِه الاختصاص، في شأن المخرج، ومجيئه على التوافق الذي كان بينه وبين المخرج الراحل حاتم علي، الذي أبدع، بإتقانٍ استثنائي، أشهر أعمال وليد سيف، ومنها "عمر" الذي أرهق كاتبَه، وأخذه إلى المستشفى.
أعرف أن وليد سيف قد أنهى تحرير روايته المبنيّة على عمله المميّز "التغريبة الفلسطينية" (إنتاج 2004)، وستصدُر قريبا، وستكون النصّ الرابع الذي ينشرُه مكتوبا من بين بعض أعماله الدرامية (الأحد عشر) التي يعكف على تحويلها من مشهدياتٍ بصريةٍ إلى روايات. وقد أفاد، في الجزء الأول من "المقابلة"، بأن مخزونا من الحكايات الأولى التي أنصت إليها من سكّان المخيم قرب طولكرم، في يفاعتِه وصباه وشبابه الأول (مواليد 1948) كان له أثرُه لمّا كَتب بعد عقود المسلسل الشهير.
كلّ إيجازٍ مخلّ، ولا يوجَز وليد سيف في "المقابلة" وفي سيرته وفي منجزه الغزير الجميل.