إصلاح ذاكرة ... "حلم وضفتان" نموذجاً
"حلم وضفّتان" للكاتبة نادية هنّي - مولاي (صدر باللغة الفرنسية في باريس، 2021)، من الكتب التي تقرؤها فتأسرك من صفحاتها الأولى، لأنّه يجمع بين الرواية والسرد التاريخي، ولأنّه يطرح الإشكالات التي لها صلة مباشرة بالملف المشكلة الحامل مسمى "إصلاح الذّاكرة" بين الجزائر وفرنسا.
تحاول المقالة، هنا، الإشارة إلى تلك الإشكالات، وفق ما أورده الكتاب، ومن خلال أحاديث صحافية جاءت فيها على كتابها، ذلك أن الكتاب، على الرغم من أنّه روائي وتاريخي وبقلم صحافية من أصول جزائرية، تعيش في فرنسا، إلّا أنّه يمكن أن يشكل مرجعية في أنّ المشكلات بين الجزائر وفرنسا ليست من قبيل المشكلات التي يمكن للجنة تاريخية مشتركة أن تعالجها، ولا قراءة متأنية لوثائق تاريخية أن تكشف عن حقائقها، بل هي متميّزة بخاصية التفرد في كلّ شيء، وعلى كلّ المستويات، كما سنرى من خلال أمورٍ لها صلة بالكتاب وبحياة والد الكاتبة، رحمه الله، وماضي عائلتها العاكس، بحقّ، كلّ ما هو جزائري، في العلاقة الشائكة مع المستوطن الفرنسي.
من بين الإشكالات التي أثارتها الكاتبة قضية مشاركة والدها، المهاجر إلى فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، في الحرب التحريرية الجزائرية (1954 - 1962)، على الأراضي الفرنسية، عضواً فاعلاً ضمن خلية الاغتيال لأعداء الثورة في فرنسا، وهي خلية كانت تقوم بأعمالها بأوامر من قادة فيدرالية الثورة في فرنسا، ومن بينها عمليات الإقناع بالانخراط في الثورة ودفع اشتراكات إضافة إلى الكشف عن المتعاونين مع الدولة الفرنسية ضدّ مناضلي جبهة التحرير الوطني (قائدة الثورة التحريرية). وهي، وفق ما ذكرت الكاتبة، شأن سرّي لم يكشف عنه الوالد المجاهد إلّا في الأعوام الأخيرة من عمره، ومن دون أن يخالط ذلك تربية أولاده على كراهية فرنسا تماماً مثل ما نراه، اليوم، وفق حديثها دائماً، في الجزائر ولدى المهاجرين الجزائريين. بمعنى أنّ المثالب هي ضدّ جرائم فرنسا الاستيطانية، وليس لتحقيق مآرب أخرى، ليُشكّل هذا الأمر الأساس الأخلاقي لمعالجة ملفّ تصالح الذاكرة لدى الجزائريين، وفق ثلاثية الاعتراف، ثم الاعتذار، ثم التعويض.
أشارت صاحبة كتاب "حلم وضفتان" إلى الأوضاع التي يعيشها المهاجرون بين هويتين جمعتهما في عبارة الضفتين، موحية إلى ذلك التقاطع، في عقول المهاجرين وقلوبهم
كما أشارت الكاتبة، في قضية ثانية، إلى ماضي منطقة القبائل، أصول والدها المجاهد، في القرن التاسع عشر (َ1871)، حيث كان لجدّ والد الصحافية دور في المقاومة الشعبية تحت قيادة القائد المقراني، رحمه الله، وهو ماضٍ ما زال حاضراً في ذاكرة المهاجرين الجزائريين، يحكي عنه الآباء لأولادهم في مشروع سردي يُبقي على ذاكرة العداء للاستيطان الفرنسي، وما أحدثه من خراب في الجزائر كلّها، حياً في الذاكرة الجمعية الوطنية، بخاصة أنّ تلك الثورة كانت امتداداً لمصادرة الأراضي ومن تداعيات مجاعة رهيبة سجلتها كتب التاريخ، وراح ضحيتها من 1963 إلى 1867 زهاء أربعة ملايين من الجزائريين، على امتداد المنطقة الوسطى من الجزائر (من بومرداس إلى سطيف، حالياً).
وبين القضيتين اللتين تحدثت عنهما، أشارت الكاتبة إلى الأوضاع التي يعيشها المهاجرون بين هويتين جمعتهما في عبارة الضفتين، موحية إلى ذلك التقاطع، في عقول المهاجرين وقلوبهم، بين ضفة شمالية تشير إلى فرنسا وما تغرسه من مبادئ، هوية ولغة، وضفة جنوبية ترمز إلى الأصول، الأعراق، التقاليد ومنظور هوياتي بكل ما يحمله من معانٍ بخاصة في جوانبه التاريخية، وتمثله تلك الشخصية المحورية في الرواية/ الكتاب، وهي شخصية والد الكاتبة مع امتداديه الماضي في أجيال غرست فيه ذاكرة وطن وأرض حملهما معه إلى المهجر وذرّيته، أولاداً وبنات، غرس فيهم، في أواخر حياته، من خلال سردياته الجزائرية، التعلق بتلك الضفة القريبة جغرافياً والبعيدة على أن تمثل انعكاساً لحلم استعادة الراحة النفسية والاستقرار الهوياتي بعيداً عن فظائع الماضي الاستيطاني الذي من الصّعب، بمكان، بل مستحيل، أن تنساه أجيال المهاجرين، آباء وأبناء، فضلاً على أن ينساه الجزائريون، بصفة عامة.
لقي الكتاب ترحاباً أدبياً مقبولاً في فرنسا، وأثار أوجاعاً كثيرة في الذاكرة التي قالت الكاتبة إنّها غير قابلة للمحو، حتى مع مرور كلّ تلك العقود
حمل الكتاب بين دفتيه حكاية أجيالٍ من الجزائريين لم يستطع الزمان، مع طوله، حيث يمتدّ إلى 1948، العام الذي هاجر فيه والد الكاتبة إلى فرنسا، أن يطوي آلامها من الاستيطان الذي دام 132 عاما، وترك بصماته على الذاكرة، اللغة والهوية في الضفتين. ولا يمكن، بالنتيجة، لأي لجنة تاريخية، وإن تكوّنت بإرادة سياسية، في الجانبين، فرنسـا والجزائر، أن تصلحها إلا بالتّأسيس لقراراتٍ تكون في مستوى تلك الآلام والفظائع، أي بثلاثية الاعتراف الاعتذار ثمّ التعويض، وهو ما لا تريده فرنسا الرسمية والإعلامية/ الثقافية، وما لا يمكن للجزائر الرسمية، الشعبية و النخبوية (أكاديميين وكُتّاباً، على امتداد الضفتين)، أيضاً، إن تقبل بأقلّ منها، أي الثلاثية المذكورة، ما سيعرّض اللجنة التاريخية المشتركة وأعمالها للفشل، من ناحية، والذاكرة الجمعية الجزائرية، من ناحية أخرى، إلى البقاء من دون إمكانية للتصالح، بل استحالتها، إذ تبقى الكتابات والسرديات تناقض المرجو من النسيان من لدن أول معركة للمقاومة في 1830، غداة دخول الجيش الاستيطاني إلى شواطئ العاصمة الجزائرية وصولاً إلى التجارب النووية والكيميائية، في الصحراء الجزائرية، ومروراً بملايين الجزائريين الذين قضوا قتلاً، ترحيلا، تجنيداً إجبارياً ونفياً إلى كاليدونيا الجديدة وغيرها من فيافي العالم.
أثار الكتاب الذي لقي ترحاباً أدبياً مقبولاً في فرنسا، أوجاعاً كثيرة في تلك الذاكرة التي قالت الكاتبة إنّها غير قابلة للمحو، حتى مع مرور كلّ تلك العقود، ومثلتها بتلك الصور الكثيرة التي كانت تزيّن بيتهم المتواضع في باريس، والتي كانت ترمز إلى الجزائر، التاريخ ومخيلة الضفة التّي لا يمكن نسيانها، بل هي محمولة، مثل تلك الأوجاع، الذكريات والسرديات، مع الأمتعة من مكان إلى آخر، وكأنّها عمليّة غرس للذاكرة وخوف من اندثارها، من جانب الآباء، وواجب، من الأبناء، من خلال تحويل ذلك إلى كتب وروايات تثيّب الرجاء وتصقله في العقول والأحلام، في الضفتين، ما يستحيل معه أن تتصالح الذاكرة من دون المعالجة الصحيحة لكلّ شيء وقع وكلّ عمل رهيب حدث، على امتداد 132 عاماً من الاستيطان.
يفرح الجزائريون كثيراً عندما تصدُر في فرنسا كتبٌ بمثل هذه السردية التي تقوّي ارتباط الكلّ بالذاكرة واستمرار اجترار القضايا الخاصّة بجرائم الاستيطان
نصل، في النهاية، بعد هذه القراءة النقدية لقضايا أثارها الكتاب، إلى العبرة التي تريد هذه المقالة إيرادها بشأن إشكالية تصالح الذّاكرة، لأنّ تلك القضايا، برمزياتها الرّوائية والتّاريخية، تشير إلى مقاربات التعامل الجديد والإبداعي مع الملفّ، لأنّ القراءة تتزامن مع بروز ما تلاعبت فيه فرنسا، وفي مقدمتها ملفّ جماجم المقاومين المستردّة من متحف الإنسان، في باريس، وكشفت عنه صحيفة نيويورك تايمز. إضافة إلى كثيرٍ مما تثيره كتابات مثقفي فرنسا وإعلامييها إزاء التاريخ الجزائري، والمهاجرين بصفة خاصة، لعلّ جديدها أخيراً تعامل الفرنسيين مع كريم بن زيمة، صاحب الكرة الذهبية للعام 2022، من استبعاده دونما وجه حقّ عن اللعب في المنتخب الفرنسي في بطولة كأس العالم في قطر، بزعم الإصابة غير المؤكّدة، هو غيضٌ من فيض مما يمكن التدليل به على وجوب تغيير المقاربة والحفاظ على خط بياني، يكون الفعل الاستراتيجي هو سقف ثلاثية الاعتراف والاعتذار ثم التعويض، ومن دونها مسايرة للفرنسيين فيما ما زالوا يوردونه بشأن تصالح الذاكرة وتلاعباتهم به.
يفرح الجزائريون كثيراً عندما تصدُر في فرنسا كتبٌ بمثل هذه السردية التي تقوّي ارتباط الكلّ، مهاجرين وجزائريين، بالذاكرة واستمرار اجترار القضايا الخاصّة بجرائم الاستيطان، وهو ما يقوّي، بالموازاة مع ذلك، حتماً، جانب التفاوض الاستراتيجي مع ملف تصالح الذاكرة، كما سبق التأكيد عليه في مقالات سابقة للكاتب في "العربي الجديد".
نتمنّى، في الأخير، ترجمة الكتاب ونشره ليساهم في ربط الجزائريين بذاكرتهم ومخيالهم الجمعي، فانّه الكنز الذي به يكون مسار توحيد الجزائريين ورؤيتهم نحو أفقٍ واحد، أفق الحلم في الضفتين، كما أرادته نادية هنّي – مولاي.