إسرائيل وتيئيس الفلسطينيين من الحرب والسلام

01 أكتوبر 2014

الجنرالات موردخاي ورابين ووايزمان في حرب 67 (6 يونيو/Getty)

+ الخط -
تشن إسرائيل على الفلسطينيين، شعباً وقيادات، حرب تيئيس طويلة الأمد، هدفها دفعهم إلى التسليم بالعجز عن استعادة حقوقهم ومطالبهم، وبالتالي، الرضوخ والاستسلام، والقبول بما تعرضه عليهم من فتات حلولٍ، تقدمها لهم متى استكانوا، وتمنعها عنهم متى تذمروا.

فقد حرصت إسرائيل، منذ الإعلان عن إقامتها في عام 1948، على إغلاق كل الطرق والمنافذ التي قد تؤدي إلى حلٍّ، أو تسويةٍ، أو سلامٍ، قد يلجأ الفلسطينيون إليه، عسكرياً أو سياسياً، ولا تزال تعمل في النهج والسياق نفسيهما، انطلاقاً من اقتناع راسخ ومحفور في صلب العقل الصهيوني بأن أي حل مع الفلسطينيين، بشأن أي حق لهم في فلسطين، خارج نطاق عيش بعضهم المؤقت على بعض أرضها، سيقود إسرائيل إلى بداية النهاية، ولا بد، بالتالي، من الابتعاد عنه، ومحاربته ومعارضته بكل ما هو متاح.

بعيد حرب 1948، ولتأمين قبولها في عضوية الأمم المتحدة، اضطرت إسرائيل للقبول الموارب بقراري الجمعية العامة 181 و194 (تقسيم فلسطين وحق العودة للاجئين)، وللمشاركة في مفاوضات رودس، والتعاطي مع لجنة التوفيق الدولية، إلا أنها سرعان ما أدارت الظهر لذلك كله، واستراحت بعد أن ضم الأردن الضفة الغربية، ووضعت مصر قطاع غزة تحت إدارتها العسكرية، ما ترتب عليه التخلص من الكتلة الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين واستيعابهم، خصوصاً في الأردن الذي منحهم الجنسية الأردنية، وإخضاعهم في البلدين للقوانين الحافظة لأمنهما واستقرارهما، بعد التغيرات التي حصلت في سدة الحكم فيهما في أوائل الخمسينات، وما نجم عنها من إخماد وتناس لقضية اللاجئين طويلاً.

مع شعورها ببوادر عودة الفلسطينيين وقضيتهم إلى صدارة العمل العربي في أواسط الستينيات، إثر انطلاقة القمم العربية وتأسيس منظمة التحرير وعقد المجلس الوطني الفلسطيني، الأول والثاني في القدس وغزة، وانطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة، سارعت إسرائيل عام 1967 للإجهاز على ما اعتبرته خطراً محدقاً عبر احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان. وكان في مقدمة أهدافها فرض أجندة جديدة على القمة العربية، عنوانها العمل من أجل استرداد سيناء والجولان، والبحث عن تسويةٍ أو حلٍّ للضفة والقطاع، بعيداً عن القضية الأم، تحرير فلسطين وعودة اللاجئين، ولا تزال مرحلة البحث عن حل يضمن استعادة باقي ما احتُلّ عام 1967 مستمرة.

حصدت إسرائيل أولى نتائج انتصارها عام 1967، بعيد حرب أكتوبر/ تشرين أول عام 1973، عندما أقر العرب والفلسطينيون الابتعاد والتخلي عن هدف تحرير فلسطين وخيار الحرب، وقرروا السعي، عبر الشرعية الدولية وقراراتها، لاستعادة ما احتل عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع إلى جانب إسرائيل.

وحاولت القيادة الفلسطينية العمل بكل السبل، البقاء في مقدمة الحدث عسكرياً عبر الحدود مع لبنان، مع علمها أن هذه العمليات لن تقود إلى تحرير شبر واحد من الأراضي الفلسطينية، وأن عملياتها قد تقود إلى العكس: احتلال إسرائيل أراض لبنانية، وهو ما حصل عام 1978، ومن ثم في غزوها لبنان عام 1982، وصولاً إلى بيروت، وتمكنها من إخراج القيادة والمقاتلين الفلسطينيين من لبنان، وتوزيعهم على دول عربية، من الجزائر إلى اليمن مروراً بالسودان، الأمر الذي لم يترك أمام القيادة الفلسطينية سوى التقدم على دروب التسوية، سواء بالتصالح مع النظامين في مصر والأردن، أو القبول بالقرارين 242 و338، إلى أن تفجرت الأوضاع الفلسطينية في الضفة والقطاع، وأنتجت الانتفاضة الأولى التي دامت خمس سنوات، وأنهتها وتوجتها القيادة الفلسطينية بالتوقيع على اتفاق أوسلو 1993.

 


كان القبول الإسرائيلي باتفاق أوسلو تكتيكياً ومؤقتاً، وأبرز أهدافه وقف الانتفاضة، والحصول على اعتراف فلسطيني بإسرائيل، وتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بما يتماشى مع ذلك، وبما يقود، لاحقاً، إلى إسقاط حق العودة، وبالتالي، الدفع بالفلسطينيين إلى القبول بسلطة حكم ذاتي في الضفة والقطاع. ومع تأكد قادة إسرائيل أن القيادة الفلسطينية ترفض الاكتفاء بحكم ذاتي، وتصر على الحصول على دولة مستقلة، وترى في اتفاق أوسلو مقدمةً لذلك، بدأوا بالمماطلة والتعطيل، بذرائع شتى، الأمر الذي استدعى حدوث انتفاضة فلسطينية ثانية، أكثر عنفاً ومقاومةً، ردت عليها إسرائيل بإعلان الحرب على السلطة الفلسطينية في قطاع غزة أولاً، ثم في الضفة الغربية.
وعندما فشلت في إخضاع السلطة لاشتراطاتها، قررت إسرائيل الانسحاب الكامل من قطاع غزة عام 2005، من دون اتفاق مع السلطة، لتقديم نفسها أنها بهذا الانسحاب، وبانسحابها من غالبية مدن الضفة الغربية، وإعادة نشر قواتها خارج ما عرف بالمنطقة ألف، تكون قد انسحبت من قسم كبير من الضفة والقطاع.

وبعيد الانسحاب من القطاع، تفجرت الخلافات والتناقضات بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس التي ترفض النهج السلمي للسلطة واتفاق أوسلو، وتصر على الاستمرار في نهج المقاومة المسلحة، وقد سارعت حماس إلى القيام بانقلاب على السلطة، وإخضاع القطاع لسلطتها وحكمها.

ومع فشل محاولات المصالحة ورأب الصدع بين السلطتين، وتعمق الانقسام والتباين بين نهجيهما، ازداد اقتناع إسرائيل بقدرتها على التملص من التزاماتها تجاه السلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي المؤيد لإقامة دولة فلسطينية، من خلال ما أفسحه لها هذا الانقسام من مجال واسع للمناورة، سياسياً وعسكرياً، أطول فترة ممكنة في انتظار تطورات أكبر، تتيح لها تحقيق ما هو أفضل في البرنامج الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين. فقد باشرت في تصوير السلطة الفلسطينية في الضفة وكأنها دار السلام المغلقة ذاتياً، على الرغم من أنها هي التي امتنعت عن تحقيق أي تقدم في المفاوضات معها باتجاه الدولة، بذريعة أن السلطة لم تعد تمثل الفلسطينيين في الضفة والقطاع، أو أنها لا تقوم بدورها الأمني كاملاً في الضفة ضد مؤيدي حماس وأنصارهم ممن يعارضون وينتقدون نهج السلطة. وفي الوقت نفسه، تستمر إسرائيل في نسف مقومات السلام عبر تهويد القدس وإنشاء المستوطنات وزيادة أعداد المستوطنين، وفي التضييق على الفلسطينيين هناك، ما يدفع بالفلسطينيين وسلطتهم إلى اليأس من إمكانية الوصول إلى الدولة المستقلة، وبالتالي، القبول بما هو أقل منها.

في المقابل، تحاول إسرائيل تصوير القطاع في ظل حكم حماس باعتباره دار الحرب المعادية لإسرائيل، والرافضة للاعتراف بها وللسلام معها، وتذهب إلى أبعد من ذلك بوصم حركة حماس بالإرهاب، وفرض الحصار عليها، وشن العدوان تلو الآخر على القطاع، بهدف تدمير قدرات حماس العسكرية، وجديدها العدوان الذي حصل أخيراً، ودام نحو 51 يوماً. وتحرص إسرائيل، عقب كل عدوان، على عدم تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار، لكي تبقى في حالة اشتباك دائم مع حماس، كلما استدعت الضرورة ذلك، لدفعها إلى التخلي عن نهجها المقاوم، ولإقناعها، بالقوة الإسرائيلية، بأن نهجها المقاوم لن يجدي حلاً.

وتراهن إسرائيل حالياً على استمرار الانقسام بين حماس والسلطة وتعميقه، خصوصاً وأن ثمة ما يؤشر على صعوباتٍ بالغة التعقيد، تحول دون ردم ما تركته فترة الانقسام الطويلة، وتجسيرها، ما يعني بالنسبة لإسرائيل الاستمرار في محاصرة السلطة في الضفة، في دوامة البحث عن حل سياسي وانتظاره، وربط مصيرها به، وبالتالي، استمرار تعريضها للتأكُّل والتفكك والانحلال، كلما طال أمد انتظارها للوصول إلى الحل المأمول دون تحصيله، مع استمرار إسرائيل في بناء مزيد من المستوطنات، والتضييق على الفلسطينيين، لدفعهم إلى اليأس والقبول بسلطة حكم ذاتي، تدير وترعى شؤونهم.

ويعني ذلك، أيضاً، الاستمرار في محاصرة قطاع غزة، وشن العدوان تلو الآخر، لدفع حركة حماس للتخلي عن نهجها المقاوم، وللاعتراف بإسرائيل والتفاوض والاتفاق معها، للاستمرار في توطيد سلطتها في القطاع، سلطة حكم ذاتي، من دون وجود لمستوطناتٍ ومستوطنين فيه.
تعتقد إسرائيل أن الظروف لا تزال مؤاتية لها، للاستمرار في نهجها الرافض أي اتفاق دائم مع الفلسطينيين على أي جزء من فلسطين، يلبي بعض حقوقهم ومطالبهم، وللاستمرار في اعتبار أي اتفاق معهم، من أي مستوى كان (بما في ذلك الحكم الذاتي) اتفاقاً تكتيكياً مؤقتاً، في انتظار ظروفٍ أفضل، تتيح لها تمزيقه، والعبور إلى مرحلة جديدة من الصراع معهم، وهي ترى أن استمرارها في الرهان على توفير ظروف أفضل هو الأنجح.

وقد تمكنت، بفضله، عبر العقود الماضية، من تجاوز قضيتي تحرير فلسطين وعودة اللاجئين وقطع أشواط في التخلص من حل الدولة الفلسطينية، وإيجاد وقائع تحول دون تقدم الفلسطينيين باتجاه الدولة، بل تدفع بعضهم، أحياناً، إلى التخلي عن هدف الدولة، من دون طرح بديل ممكن له، فهل يسقط الفلسطينيون الرهانات الإسرائيلية على انقسامهم وتضعضع قوتهم، أم أن الخيارات المتاحة صعبة، وتزداد ضيقاً وانعزالاً وانحساراً، وتزداد معها القضية اختصاراً واحتضاراً.