إسرائيل وبداية الانكسار
قبِل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بوقف إطلاق النار في غزة بعد 11 يوما من القصف الجوي والبحري والبري المتواصل، لكن هذا لا يعني أنه توصل إلى "الهدوء التام وطويل الأمد" الذي كان يطمح إلى تحقيقه. كان نتنياهو وجنرالاته يسعون إلى إيصال الفلسطينيين إلى نقطة الانكسار، ينبطح فيها الشعب بأكمله، حتى يكملوا تصفية الأراضي المحتلة من الوجود الفلسطيني، وإحلال مجتمع يهودي خالص. عبثا يحاول الكيان الصهيوني كسر إرادة الشعب الفلسطيني، معوّلا على الدعم المالي والعسكري والسياسي من أميركا، على الرغم من أن له أكثر من عِبرة في المقاومة الفيتنامية التي كسرت أميركاه على نحو غير مسبوق في تاريخها.
في تلك الحرب الاستعمارية التي امتدت من 1955 إلى 1975، نشرت أميركا جيشا ناهز ثلاثة ملايين جندي، واستعرضت أحدث أسلحة الدمار الشامل باستثناء القنبلة النووية. قصفت المدن بقنابل النابالم، وأحرقت مئات القرى بمن فيها، وقتلت مئات آلاف المدنيين، لكنها لم تكسر شوكة ثوار الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (الفيتوكنغ)، بل اتسعت رقعة مقاومتهم في الشمال والجنوب وزادت حدّتها بازدياد عدد ضحاياها. ظلت أميركا تُضاعف شراسة هجومها بحثا عن نقطة انكسار الثوار (the breaking point)، النقطة التي تفوق فيها خسائر العدو قدرته على مواصلة الحرب، فيلقي سلاحه ويستسلم. سنة بعد سنة، وهجوما بعض هجوم، سيتبيّن لواشنطن أن عدم انكسار الفيتناميين يعود بالأساس إلى قدرتهم على تحمّل الخسائر، وقبولهم التضحية بالأرواح على نحو هائل واستثنائي في تاريخ القتال الحديث.
عبثا يحاول الكيان الصهيوني كسر إرادة الشعب الفلسطيني، معوّلا على الدعم المالي والعسكري والسياسي من أميركا
حققت مقاومة فيتنام عددا من أطروحات المفكر العسكري، الجنرال كارل فون كلاوزفيتس، الذي يقول، في كتابه "عن الحرب"، إن الحروب هي صراع إرادات قبل كل شيء، والخسائر المعنوية هي السبب الرئيس في حسمها، وإن تحطيم المعنويات، وليس فقدان الرجال والمدافع، هو ما يحدد استمرار الأطراف في الاشتباك أو توقفها. عند هزيمة أميركا، أقّر وزير الخارجية الأميركي آنذاك، دين راسك، بأنه استهان بمقاومة شعب فيتنام وعزيمته، واستغرب كيف ظل يقاوم حتى بعد أن بلغ عدد ضحاياه 700 ألف قتيل، أي ما يعادل عشرة ملايين أميركي آنذاك. وفي معرض دراسته هذه الحرب، لاحظ أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوهايو الأميركية، جون مولير، أنه على الرغم من أن الخسائر الأميركية كانت تقل عن خسائر فيتنام بنسبة 175%، إلا أنها كانت جد مرتفعة وبالغة التكلفة، وخلص إلى هذا الاستنتاج: "كانت هناك بالفعل نقطة انكسار، ولكن الأميركيين هم الذين انكسروا".
يوضح الوقوف عند تلك الحرب أن أميركا لم تتعظ من تجاربها بعد، وها هي تعيش، مع حليفها الإسرائيلي، كابوس فيتنام جديدا. لقد أثبت الشّعب الفلسطيني أنه غير قابل للانكسار، على الرغم من عقود من الاجتثاث والتشريد والقتل والدمار والحصار والتقطيع والتجويع والتطبيع والأسرلة. بعد ثلاث حروب في قمة الوحشية، صمد الفلسطينيون في غزة في وجه حربٍ رابعة، ومرّة أخرى سينهضون كالفينيق من رماد نيران العدوان. اليوم، وقد مضى أكثر من 73 عاما على انطلاق النكبة، يستفيق الإسرائيليون على حقيقة أنهم احتلوا الأرض، ولم يحتلوا أصحاب الأرض، اجتثوا الفلسطينيين من بيوتهم، ولم يقتلعوهم من هويتهم، مزّقوا فلسطين، وأنهكوا أجيال النكبة والنكسة، وها هو جيل الانتفاضة يواصل المشوار ويناضل في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي الـ 48 التي تشكل وحدها أكثر من جبهة.
بدأت أسطورة "الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط تسقط على يد أبناء جلدة المحتل ذاته
تنكسر إسرائيل شيئا فشيئا، وتتصدّع من الداخل، فضلا عن تشرذم أحزابها وأزمة قيادتها، وانقسام صهيونييها بين علمانيين ومتدينين وإرهابيين. وقد بدأت أسطورة "الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط تسقط على يد أبناء جلدة المحتل ذاته. في مطلع العام الجاري (2021)، أصدرت منظّمة "بتسيلم" الإسرائيليّة تقريرا تحت عنوان: "نظام تفوّق يهوديّ من النهر إلى البحر: إنّه أبارتهايد". على الرغم من أن التقرير لم يأت بجديد، ولا يرقى إلى مستوى تقارير المنظمات الحقوقية الفلسطينية التي سبقته في رصد جرائم التطهير العرقي الإسرائيلي وتوثيقها منذ النكبة، وعلى الرغم من أن المنظمة تدافع عن الدولة اليهودية بوصفها مشروعا "ديمقراطيا متنوّرا" يجب إنقاذه، إلا أن تبنّيها توصيف الأبارتهايد حرّر العالم من تهمة معاداة السامية التي تلاحق كل من يجرؤ على انتقاد الكيان الصهيوني. هذا ما يفسّر الاهتمام الدولي الواسع الذي لقيه التقرير، خصوصا في الأوساط الليبرالية الوازنة في صناعة الرأي في أميركا وبعض الدول الأوروبية.
بناءً على تقرير "بتسيلم"، أصدرت الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) كبرى المنظمات الحقوقية الأميركية، هيومن رايتس واتش، تقريرا مفصلا تحت عنوان: "تجاوزوا الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد". لأول مرة في الـ 43 سنة من عمر هذه المنظمة الرائدة، تصف إسرائيل دولة أبارتهايد، وتطالب السلطات الفلسطينية بوقف جميع أشكال التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي التي تساهم في تسهيل ارتكاب جرائمه. تضمّن التقرير عدة توصياتٍ أخرى، بما فيها إنشاء لجنة دولية لتقصي الحقائق عبر "الجمعية العامة للأمم المتحدة" للتحقيق في التمييز والقمع المنهجيين ضد الفلسطينيين. ولم يمض أسبوع على نشر التقرير، حتى برز أثرُه في الأمم المتحدة، على مستوى "لجنة القضاء على التمييز العنصري"، وهي هيئة ترصد تنفيذ "الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري". بعد مماطلةٍ دامت ثلاث سنوات، قرّرت اللجنة، (يوم 30 أبريل)، قبول شكوى ضد عنصرية إسرائيل، كانت قد تقدّمت بها السلطة الفلسطينية في إبريل/ نيسان 2018، وقرّرت تشكيل "هيئة توفيق خاصة"من أجل الوصول إلى "حل ودي للمسألة". لا تخلو هذه الخطوة من تعقيدات إجرائية تفسح المجال أمام إسرائيل لربح بعض الوقت كعادتها، لكن وفقا للمادة 22 من المعاهدة، إذا تعذّرت تسوية هذا "النزاع" بالمفاوضة، وستتعذّر لا محالة، ستتم إحالته على محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي سبق وأقرّت عدم شرعية جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية.
بدأ الرأي العام الأميركي يميل شيئا فشيئا للفلسطينيين، ويحضّر الأرضية لتغيير في سياسات واشنطن تجاه القضية في المستقبل
حين ستُطرح مجدّدا جرائم إسرائيل على هذه المحكمة، بالإضافة إلى المحكمة الجنائية الدولية، ستشكل هزيمة أخلاقية إضافية، وضربة معنوية من شأنها أن تحشد مزيدا من الدعم للحركة الدولية التي بدأت تتشكل لمناهضة نظام الأبارتهايد في إسرائيل. لقد بدأ الرأي العام الأميركي يميل شيئا فشيئا للفلسطينيين، ويحضّر الأرضية لتغيير في سياسات واشنطن تجاه القضية في المستقبل، فلقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة جالوب هذا العام أن 34 %من الأميركيين يعتقدون أن على الحكومة الأميركية ممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل، في تحوّل لافت لصالح الفلسطينيين. وينعكس هذا التحوّل داخل الحزب الديمقراطي أيضا، فمن أكبر سيناتور فيه، بيرني ساندرز، إلى أصغر النواب، ألكساندريا أوكاسيو - كورتي، برزت كتلة ديمقراطية تنتقد موقف إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بشدة، وتطالبه بوقف التهجير القسري لساكنة القدس الشرقية، وتحثّه على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، بدءًا بحقه في الحياة، والكفّ عن صرف أموال دافعي الضرائب الأميركية على جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
أثبتت هذه الانتفاضة، للمرة الألف، قدرة الفلسطينيين الخارقة على تحمّل التضحيات وعدم الانكسار
ولأول مرة، وجّهت حوالي 140 منظمة أميركية رسالة إلى إدارة بايدن، تطالب بوضع حد لجرائم الاحتلال، وإيقاف عملية طرد الفلسطينيين من حي الشيخ جرّاح في القدس وبلدة سلوان تحديدا. وقد خاطبت قضية التهجير القسري ضمائر العالم، ولاقت تضامنا دوليا واسعا وغير مسبوق، ما جعل كثيرين ينتقدون مبادرة حركة حماس بإطلاق قذائف صاروخية، كسّرت زخم هذا التضامن، وحوّلت الأنظار عن قضية "الشيخ جرّاح"، ليتحول مركز المواجهة من القدس إلى غزة. ولكن تدخّل حماس سجل نقاطا في مرمى العدو، لكنه ربما أضاع فرصة ثمينة لتوظيف قضية التهجير القسري مدخلا لتعرية جوهر طبيعة إسرائيل، نظاما استيطانيا - اجتثاثيا - إحلاليا يقوم على أساس التشريد والتهويد. ويطرح انفراد "حماس" بقرار الدخول على الخط من دون مشاورة الأطراف الفلسطينية الأخرى، يطرح مشكل المفارقة الصارخة بين نضال شعبي موحّد وقيادات وقوى وفصائل ونخب منقسمة، بعضها لا يعترف بدولة الاحتلال، وبعض آخر يخدُمها ويكرّس بقاءها. لقد أثبتت هذه الانتفاضة، للمرة الألف، قدرة الفلسطينيين الخارقة على تحمّل التضحيات وعدم الانكسار، وأن الخلل لا يكمن على المستوى الشعبي، وإنما في الشق السياسي من النضال الذي يقتتل حول السلطة. حالة التخبط والضياع السياسي هاته تدعو إلى استحضار ما قاله كلاوزفيتس إن السياسة هي التي تتحكّم في الحرب وليس العكس، وما الحرب إلا وسيلة لتحقيق أغراض سياسية.
ظهور مؤشّرات على بداية انكسار إسرائيل في الداخل والخارج، في الوقت الذي اتحدت فيه القاعدة الفلسطينية على رفض الاحتلال والأسرلة، يشكل فرصة تاريخية، تستدعي التعجيل بإعادة تنظيم النضال الفلسطيني على أساس مشروع سياسي جديد، وميثاق وطني جديد، باعتبار هذا الاستحقاق خطوة ملموسة نحو إنهاء الاحتلال.