إذا كُنتَ ذاهباً إلى مسقط
لا يذهب الأجنبي أو العربي إذا كان سائحاً إلى مسقط للتسوّق، أو للقيام بما لا يستطيعه في بلاده من أفعال قد تكون مُجَرّمة قانونياً، بل للسياحة فعلاً، أي ارتياد أماكن نادرة أو ذات طبيعة خاصّة (صلالة أو نزوى)، أو حضور حفلة في دار الأوبرا (الأثرياء يفعلون ذلك)، أو التسكّع في أسواق مطرح الشعبية، والتمتّع بسياقة السيارة المُستأجَرة في البلاد كبيرة المساحة، المليئة بالقلاع على رؤوس الجبال. وإذ يفعل ذلك، يكون مطمئناً على حياته، وعلى أنّه لن يتعرّض لاحتيال أو ابتزاز، فكأنّما هو في بيته وبين أهله، وربّما يجد في تلك البلاد من السماحة والتسامح ما يجعُله يعود ساخطاً على قومه، في بلاده، الذين لا تفارق الكشرة سيماءهم حتّى في أعراسهم وليالي أنسهم.
زار كاتب هذا المقال سلطنة عُمان مرّتَين، مع فاصل زمني بينهما يقارب الثلاثين عاماً، وفي الزيارتَين كان انطباعه يتعزّز عن ما يمكن وصفها بالشخصية العُمانية، فهي الأكثر تسامحاً وسلاماً داخلياً في منطقة الخليج بأسرها، والأكثر انسجاماً مع بيئتها وهويّتها، فلا هي منسرقة إلى حداثة زائفة لا ترى التقدّم سوى في ناطحات السحاب، ولا هي مشدودةٌ إلى أصوليات تعوّق تقدّمها ومعاصرتها. وربما ساهم في ذلك مذهبها الإباضي معطوفاً على عدم ثرائها، إضافة إلى تأثّرها العميق، وربّما البنيوي، بشخصية مُؤسّسها المعاصر السلطان الراحل قابوس بن سعيد، الذي وسم البلاد بطابعه، فإذا هي فاعلة لكن بصمت ومن دون ادّعاء، ومستغنية كأنّها منعزلة عن العالم بأسره، وهو ما تجلى في سياستها الخارجية، فهي على حافّة الصراعات، وليست في بؤرتها. تتدخّل من خلف ستارٍ لتفكيك الأزمات في الجوار، وإذ تفعل تعود إلى مكانها، واحةَ عدم انحياز، محتفظةً بعلاقاتها الجيّدة مع إيران كما السعودية، مع قطر كما البحرين والإمارات، ومبرّأة من الغرَض في مسعاها، فليس سوى السلام الداخلي ما كان يسعى إليه السلطان الراحل، وبلاده أيضاً.
ولنتذكّر هنا أنّ الزعيم الراحل، الذي يعتبره بعض الدارسين الأكثر غموضاً في المنطقة، كان يجلس على ركبتيْه على الأرض بين مواطنيه، في جولاته السنوية في أرجاء البلاد، فيستمع إليهم وعلى وجهه ظلُّ ابتسامة دائمة، بتواضع جمّ كأنّه خارج الأرض نفسها، خارج المناصب والسياسات وتعقيداتها وإكراهاتها، مُجرّد رجل حقيقي بسيط يصغي لأحد مواطنيه كأنّما في خلوة نادرة مقذوفة خارج الزمن نفسه. هذا التواضع النادر، السلام الداخلي، جعل البلاد التي تتميّز بكثرة قلاعها العالية وجبالها الحجريّة، أقرب إلى إرث الماء لا الحجر، فانعكس هذا في الشخصية العُمانية، فإذا هي أقرب إلى الليونة منها إلى الجفاف، الانفتاح لكن بمقدار، والسعي إلى الأمان للنفس وللآخرين.
في جدل القلعة والبحر داخل الشخصية العُمانية، لن تلفت المدافع القديمة انتباهك لو زرت إحدى هذه القلاع أكثر من الكوى، أو النوافذ الصغيرة التي تطلّ على البحر، حيث الخطر يأتي من هناك. هذه النوافذ على ضيقها تُؤدّي الغرض منها. وفي مرحلة من تاريخ عُمان كان يُكتفى بها لرؤية الخارج، لكنّ الماء، وهو البحر الفسيح، جعل الحاجة تزداد إلى نوافذ أوسع بعد زوال الخطر، وهو ما حدث في البلاد، لكن بتدرّج يتسارع بعض الشيء في الحقبة الحالية.
عُمان تكتشف نفسها مع توسّع مديات الرؤية، وتتقدّم خطوة بل خطوات، وبنظرة عجلى إلى حضور الرواية العُمانية في المشهد الإبداعي العربي، يمكنك أن تتلّمس الإمكانيات غير المكتشفة بعد لدى العُمانيين، فخلال السنوات القليلة الماضية ثمّة تصدّر للمشهد، وفوز تلو آخر بجوائز رفيعة، من جوخة الحارثي، إلى زهران القاسمي ومحمد اليحيائي وبشرى خلفان، وغيرهم. لو زرت مسقط أنصحك بقراءة رواية جوخة الحارثي "سيدات القمر" (دار الاداب، بيروت، 2010) لتقف على تحوّلات المجتمع العُماني، كما أنصحك بالحرص على أن تحجز لك مقعداً لحضور إحدى حفلات دار الأوبرا قبل وقت كاف، فمسقط أول عاصمة خليجية تحتضن داراً للأوبرا إذا لم تكن تعلم، كما أنّها أول دولة خليجية لديها أوركسترا وطنية، وهي، قبل هذا وسواه، الأولى عربياً، في ظنّ كاتب هذه السطور، من ناحية بشاشة مواطنيها، وذلك الرضا الغامض الذي تراه في وجوههم، ما يجعلك تستهجن أيّ عنف قد تسمع عنه في عُمان، وتسارع إلى الإنكار والتكذيب، أو إلى اعتباره نادراً وحدثاً معزولاً في تاريخ هذه البلاد.