إدارة ترامب في أفريقيا .. مبادرات وتجاهل رئاسي
مع انتهاء فترة حكم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعد أسابيع، يلفت نظر المراقبين أن أقدامه لم تطأ أرض القارة الأفريقية طوال سنوات إدارته الأربع، عوضًا عن نظرته الدونية إلى القارّة وقادتها في المرات القليلة التي وردت على لسانه، سواء في الغرف المغلقة أو أمام وسائل الإعلام. أثار متخصصون، منتصف العام الجاري (2020)، على خلفية مقتل المواطن الأميركي الأسود، جورج فلويد، تأثير مسألة تأثير العنصرية المحلية الأميركية على السياسة الخارجية، وأهمية مناقشة المسألة، وطرح فكرة كيفية تحجيمها قدرات السياسة الخارجية الأميركية، ومدى مساهمة حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة التي تزامنت مع بدء استقلال دول أفريقية كثيرة في إقدام مسؤولي الأمن القومي الأميركيين على تصنيف التفرقة والعنصرية تهديدات للسياسة الأميركية في أفريقيا جنوب الصحراء. لكن على الرغم من ذلك، لم تتطوّر هذه الانتقادات في شكل اهتمام أميركي أصيل بالقارة الأفريقية، فقد لوحظ غياب أفريقيا بشكل ملفت في المناظرات الانتخابية التي جرت بين مرشحي الرئاسة ونائبيهما.
وبدا استثناء هزيل لهذا التجاهل، قبيل انطلاق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أكثر من عشر دول أفريقية، بالتزامن مع انطلاق مقدمات العملية الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة نفسها، حيث بادر وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى إصدار بيان حول "الانتخابات المقبلة في أفريقيا"، عبر فيه عن التزام بلاده بانتخابات حرّة وعادلة وشاملة، وأن إجراء الانتخابات ليس هامًا للأفارقة فحسب، ولكن أيضا للمدافعين عن الديمقراطية في أنحاء العالم. لافتًا إلى أن "القمع والترهيب ليس لهما مكان في الديمقراطيات"، كما أن حق التجمع السلمي وحرية التعبير والاجتماع يقعان في قلب أية ديمقراطية فعالة. ولفت البيان إلى مراقبة واشنطن اللصيقة الانتخابات، وعدم تردّدها في فرض عقوبات على من يتدخلون في الانتخابات الأفريقية أو يرتبطون بالعنف. ولم يتضح للمراقبين سبب مباشر للبيان الذي حظي بانتقاداتٍ، أهمها نظرته "الكولونيالية" لأفريقيا كدولة واحدة.
خطوط عامة
يمكن القول، بموضوعية، إن إدارة ترامب واصلت، بشكل كبير، السياسات الأميركية في أفريقيا، الهادفة إلى بناء صلات اقتصادية واستقرار سياسي ورعاية صحية، وإن افتقرت إلى استراتيجية واضحة لمواجهة التحدّيات الجيوسياسية والأمنية القومية المتصاعدة في القارّة. وعلى الرغم مما أبداه ترامب من عدم اكتراث بالقارة، فإن إدارته اتبعت سياسات عديدة بناءة، مثل الرؤساء السابقين في الولايات المتحدة، بفضل طبيعة النظام الحزبي في الكونغرس وتعيين مسؤولين ذوي خبرات جيدة، كان لهم الدور الأكبر في إدارة السياسات الأميركية في أفريقيا، وفي ملفات بالغة الحساسية.
ساهمت إدارة ترامب، حسب الرواية الرسمية، بجهد ملموس في دعم تيسير خروج رجل الكونغو القوي، جوزيف كابيلا، من الحكم
وتمثلت أهم ملامح السياسة الأميركية في أفريقيا في عهد ترامب في مبادرات وجهود عديدة، أهمها مبادرة أفريقيا المزدهرة "Prosper Africa" (أعلنها مستشار الأمن القومي حينذاك جورج بولتون في نهاية 2018) بهدف تعزيز الاستثمار الأميركي في أفريقيا، عبر مساعدة الشركات الأميركية الساعية إلى العمل في القارة، ودعم المبادرة قانون الاستخدام الأفضل للاستثمارات المؤدية إلى التنمية "بيلد" الذي أسس آلية هيئة تمويل التنمية الدولية الأمريكية لتحل محل هيئة الاستثمار الخاص بالخارج. وقد ضاعف "قانون بيلد" من القيمة المتاحة من الاستثمارات من 29 بليون دولار، في ظل هيئة الاستثمار الخاص الخارجي، إلى 60 بليون دولار في ظل هيئة تمويل التنمية الدولية. وعلى الرغم من أن القانون غير مختص بمنطقة بعينها، فإن أفريقيا جنوب الصحراء حصلت على النصيب الأكبر من حافظة الهيئة الأخيرة.
كما ساهمت إدارة ترامب، حسب الرواية الرسمية، بجهد ملموس في دعم تيسير خروج رجل الكونغو القوي، جوزيف كابيلا، من الحكم مطلع 2019. ودعمت مبادراتٍ لإنهاء الحرب الأهلية في الكاميرون، ودعم الديمقراطية في السودان عقب سقوط نظام الرئيس عمر البشير. فيما برّر مؤيدون لترامب قراراته السياسية التي أثرت على الدول الأفريقية بأنها كانت مدفوعةً بالأساس بالوعود التي قطعها على نفسه، أمام قاعدته الانتخابية في مواجهة الإرهاب.
ومقابل التجاهل الرئاسي لأفريقيا، إن جاز القول، عمد ترامب إلى إحداث تغييرات مهمة في المناصب المهمة في إدارته الخاصة بأفريقيا، أبرزها تعيين الدبلوماسي البارز، تيبور ناجي، مساعدًا لوزير الخارجية لشؤون أفريقيا منذ يوليو/ تموز 2018، ومارك جرين إداريًا للوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) منذ أغسطس/ آب 2017. ولدى الأول خبرة أكثر من ممتازة بالشؤون الأفريقية، بينما كان جرين سفيرًا أميركيًا سابقًا في تنزانيا، ولكليهما خبرة في العمل في برامج المساعدات الأميركية ومبادرات تسوية الصراع في عهد الإدارات السابقة. كما سيخلف جرين (أعلن استقالته عن منصبه في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) جون بارسا، وهو إداري مساعد في الوكالة الأميركية. وحسب مراقبين أميركيين، كانت خيارات ترامب لسفراء الولايات المتحدة في أفريقيا جيدة بشكل كبير، غير أن كثيرا منها كان متأخرًا أكثر من اللازم. ونجح الكونغرس في الحيلولة دون تنفيذ اقتراحات مكتب الإدارة، والموازنة بخفض مساعدات خارجية هائلة، سواء على مستوى ثنائي أم عبر الأمم المتحدة ووكالات دولية، كان يتوقع أن تؤثر على أفريقيا بشكل أكبر من أي إقليم آخر. وحافظ الكونغرس، أو زاد في واقع الأمر، من مستويات التمويل الحالية.
برزت إثيوبيا والسودان والكونغو الديمقراطية أهم ثلاث حالات تدخلت فيها واشنطن بشكل مباشر، وحققت حسب رؤيتها نجاحات لافتة
وفي محاضرة مهمة له، في مركز وودرو ويلسون في مارس/ آذار الماضي، استعرض تيبو ناجي أولويات سياسات الولايات المتحدة في أفريقيا: تسخير مقدرات الشباب الأفريقي كقوة للإبداع والازدهار. العمل مع الحكومات الأفريقية على إيجاد مستوى مناسب لعمل الشركات الأميركية، وتشجيع الشركات الأميركية على العمل في أفريقيا. تحقيق تقدم في السلم والأمن عبر مشاركات مع الحكومات الأفريقية والآليات الإقليمية. مواجهة "رواية الصين" وتوضيح سعة (وعمق) الالتزام الأميركي بأفريقيا الذي لا يباريه أحد. إضافة إلى الوصول إلى جماعات الشتات الأفريقي في الولايات المتحدة. واستعرض ناجي، في النص الأميركي الأكثر اكتمالًا لسياسة ترامب في أفريقيا، أهم الملفات الثنائية التي حققت فيها الولايات المتحدة تغيرًا وتقدمًا إيجابيين فيها، وتحسنت علاقاتها معها، وهي إثيوبيا والكونغو الديمقراطية والسودان، إضافة إلى الشراكة الاقتصادية الأميركية مع أفريقيا، والشباب، ومسألة الصين في أفريقيا.
الملفات الثنائية الملحة
برزت إثيوبيا والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية كأهم ثلاث حالات تدخلت فيها واشنطن بشكل مباشر، وحققت حسب رؤيتها نجاحات لافتة.
إثيوبيا: حسب تحليل تيبور ناجي، فإن أجندة الإصلاح الإثيوبية مثلت تقدّمًا ملفتًا في مداها وطموحها إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمواطنين، فمنذ وصوله إلى السلطة في العام 2018، أفرج رئيس الوزراء، آبي أحمد، عن السجناء السياسيين والصحافيين، وتوصل إلى اتفاق سلام مع إريتريا، ورفع القيود عن المجتمع المدني، وألغى تجريم جماعات المعارضة السياسية. وكان لهذه التطورات أثر إيجابي على مشاركة المرأة في السياسة، إذ تمثل المرأة الآن نصف المقاعد الوزارية في الحكومة و37% من المجلس التشريعي. كما تقلدت أول رئيسة إثيوبية منصبها، وهي سهلي- ورق زيودي. وعدّد ناجي، الذي كان يتحدث، قبل تأجيل الانتخابات النيابية والرئاسية في إثيوبيا، مساهمات الولايات المتحدة في تعزيز أجندة آبي أحمد لدعم مفوضية الانتخابات الإثيوبية، ومواجهة أسراب الجراد واستثمارات لشركة كوكاكولا العالمية في إثيوبيا بقيمة 300 مليون دولار، وترتيب جهود مكتب الشراكات العالمية في الخارجية الأميركية الذي قاد وفدًا استثماريا لإثيوبيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، إضافة إلى استكشاف شركات، مثل فيديكس وسيتي بنك، فرصًا جديدة في إثيوبيا.
أحدث ترامب تغييرات مهمة في المناصب المهمة في إدارته الخاصة بأفريقيا
وفيما واصلت إثيوبيا بعد تولي آبي أحمد رئاسة الوزراء (إبريل/ نيسان 2018) الشراكة الاستراتيجية مع الصين (الشريك التجاري الأول مع إثيوبيا وبقيمة تقترب من خمسة أضعاف حجم التبادل التجاري مع الهند، ثاني أكبر شركاء إثيوبيا التجاريين)، فإن واشنطن، عمليًا وفيما يدحض مصداقية رؤية ناجي، لم تخف قلقها من التوجه الإثيوبي نحو الصين، وتصاعد هذا التوتر في العام الحالي على خلفية الموقف الأميركي من سد النهضة، ما اعتبره محللون كثيرون أكبر فشل للإدارة الأميركية في القارة الأفريقية. والوساطة الأميركية في أزمة السد فاقمت من التوتر بين مصر وإثيوبيا، وبرهنت، حسب هؤلاء المراقبين، على فشل ترامب في فهم كيفية عمل الدبلوماسية الدولية. كما تنامي الغضب الشعبي في إثيوبيا من مواقف إدارة ترامب التي ترقى إلى "درجة خيانة الشعب الإثيوبي"، ونظام أديس أبابا الحليف تقليديًا للسياسات الغربية في القرن الأفريقي. فيما رأى مراقبون آخرون وقوف واشنطن في صف القاهرة غير مفاجئ، لأن هدف إدارة ترامب الأهم دوليًا هو التقارب بين إسرائيل والدول العربية، والذي يتوقع أن لمصر دورا حاسما في إدارة ملفاته.
الكونغو الديمقراطية: أكد ناجي أن جمهورية الكونغو الديمقراطية نالت، للمرة الأولى في تاريخها، فرصة أن تحيا كما اسمها ديمقراطية وجمهورية؛ فقد ميز انتخاب الرئيس فليكس تشيسيكيدي، الذي شهد نشر قوات أميركية بالكونغو لدعم سير عملية الانتخابات، أول انتقال سلمي للسلطة من رئيس قائم إلى المعارضة منذ استقلال الكونغو في 1960. وبعد تقلده السلطة، عفا عن مجموعات من السجناء السياسيين، وبينهم مناوئون للرئيس السابق كابيلا. وفتح المجال السياسي ورحب بالمعارضة في المنفى لأن تعود إلى الكونغو. ووضع أولويات لحكمه، تتمثل في محاربة الفساد، وتقوية الحوكمة، وتحقيق تقدم في مجال حقوق الإنسان، ومحاربة الاتجار في البشر. وأعلنت شركة جنرال إلكتريك عن استثمار بعدة بلايين من الدولارات في مشروع للطاقة المائية والغاز، والرعاية الصحية. وتدعم الولايات المتحدة جهود مكافحة الفساد، وتحسين الشفافية المالية في الصناعة الاستخراجية. وزيادة قدرة الحكومات المحلية على إدارة العائدات المالية الجديدة التي تتلقاها المجتمعات المحلية الآن للمرة الأولى.
لم تخف واشنطن قلقها من التوجه الإثيوبي نحو الصين، وتصاعد هذا التوتر في العام الحالي على خلفية الموقف الأميركي من سد النهضة
وتطورت العلاقات الأميركية مع الكونغو، وصولًا إلى توقيع اتفاق عسكري جديد بين البلدين في أغسطس/ آب 2020، لتعزيز الصداقة بينهما، وإتاحة المجال أمام تأسيس مركز للقيادة الأميركية في أفريقيا في الكونغو، وعزّزت الخطوة تصوّرات توجه نظام تشيسيكيدي المتزايد نحو واشنطن، إلى درجة إعلانه، خلال زيارته واشنطن في مارس/ آذار 2020، عن خطط بلاده لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، ودعم خطة السلام الأميركية لتسوية الصراع في الشرق الأوسط، وتوقعات بنقل مقر قيادة أفريقيا الأميركية (أفريكوم) من مدينة شتوتغارت الألمانية إلى الكونغو (فكرة سبق تداولها في 2008 حسب نائب وزير الدفاع الكونغولي السابق محمد بول).
وعلى الرغم من هذه المقاربة الكونغولية، شن أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي (17 أغسطس/ آب 2020)، تقدّمهم عضو لجنة الشؤون الخارجية في المجلس، السيناتور تيد كروز، حملة لمطالبة ترامب بالضغط على الكونغو، للإقدام على إصلاحات هيكلية ومحاربة الفساد، وأن تنتهز واشنطن الفرصة التاريخية المتاحة لحث الكونغو على ذلك، ما يعطي مؤشرًا على مواصلة واشنطن ضغوطها على الكونغو في الفترة المقبلة، بغض النظر عن هوية الرئيس الأميركي.
استضافت واشنطن أول تجمع "لأصدقاء السودان" لبناء دعم دولي للنظام الجديد
السودان: كان سقوط عمر البشير بعد بقائه في السلطة 30 عامًا لحظة تاريخية. وبعدها بشهور، تحول السودان من نظام معادٍ لواشنطن إلى شريك محتمل. وقد لعبت الولايات المتحدة دورًا هامًا في تمكين الحكم المدني في السودان، إذ أرسلت، بعد وقت قصير من سقوط البشير، نائب مساعد وزير الخارجية، ماكيلا جيمس، إلى الخرطوم، لعقد مناقشات أولية مع فرقاء المرحلة الانتقالية، وتم تعيين الدبلوماسي المتقاعد، دون بوث، مبعوثًا أميركيًا خاصًا للسودان. كما استضافت واشنطن أول تجمع "لأصدقاء السودان" لبناء دعم دولي للنظام الجديد. وفي يناير/ كانون الثاني 2020، التقى تيبور رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في الخرطوم، لمناقشة "رؤيتنا المشتركة لمستقبل السودان الديمقراطي"، وكذا برئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان.
وبغض النظر عن رواية ناجي، فقد نجحت واشنطن، بشكل ملحوظ، في إدارة ملف السودان وفق المسار الذي وضعته، منذ نهاية عهد الرئيس السابق باراك أوباما، بفرض مشروطية "مرحلية" لرفع العقوبات الأميركية عن السودان، وعملية شطب اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وقد استهلت إدارة أوباما المسار بإعلان رفع الحظر الاقتصادي الأميركي في يناير/ كانون الثاني 2017، والذي لم يكن في جوهره سوى تخفيفًا للعقوبات المفروضة "تقديرًا لجهود السودان في تقليل الصراع الداخلي وتحسين وصول المساعدات ومواجهة الإرهاب"، مع تأجيل تنفيذ قرار أوباما 25 أسبوعًا "لمنح مزيد من الحوافز للحكومة السودانية لمواصلة إصلاحاتها". وظل تصنيف السودان رسميًا دولة راعية للإرهاب الذي عنى عدم إمكان الخرطوم تحقيق أية عائدات اقتصادية من الأمر التنفيذي الذي أصدره أوباما، مع بقاء المستثمرين والمصارف الأجنبية متحفظين عن الاستثمار في السودان، وعدم قدرة الخرطوم على مقاربة صندوق النقد الدولي لطلب مساعدات عاجلة، والمساعدة في حل أزمة الديون المتفاقمة. وأكدت الخارجية الأميركية وجوب تحقيق السودان تقدّم في ستة مجالات لرفع اسمه من القائمة: توسيع التعاون في مواجهة الإرهاب، وتحسين حمايات حقوق الإنسان بما فيها حرية الاعتقاد والإعلام، وزيادة الوصول للمعونات الإنسانية، ووقف القتال مع المتمرّدين والعمل نحو محادثات السلام، وإظهار وقفه لدعم الإرهاب، وقطع صلاته وتعاونه مع كوريا الشمالية.
تصنيف السودان رسميًا دولة راعية للإرهاب يعني عدم إمكان الخرطوم تحقيق أية عائدات اقتصادية من الأمر التنفيذي الذي أصدره أوباما
وواصلت إدارة ترامب مقاربة لصيقة بمكونات المرحلة الانتقالية في السودان، عقب خلع البشير (إبريل/ نيسان 2019)، سواء بانخراط مباشر للدبلوماسية الأميركية أم عبر أطراف إقليمية نافذة في المرحلة، وبتنسيق معها، وصولًا إلى نجاح واشنطن التام، قبل نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2020، في ضم السودان الذي تصدر جبهة الرفض العربية عقب نكسة يونيو 1967، إلى قائمة الدول العربية المطبعة مع إسرائيل، ضمن ترتيبات رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، من دون تقديم المقابل الذي كانت تأمل فيه الخرطوم أو توقعه مراقبون، والاكتفاء باستئناف الدعم الخليجي للخرطوم، وتقديم وعود غير محددة بمزيد من المساعدات.
مقاربات "فك الارتباط" الاقتصادي
حسب ناجي، حققت الإدارة الأميركية منجزات مهمة على الصعيد الاقتصادي، منها ما أرساه قانون "بيلد" من تكوين هيئة تمويل التنمية ومضاعفة رأس المال الاستثماري المتاح إلى 60 بليون دولار، ويمنح مؤسسة تمويل التنمية القدرة على عمل استثمارات حقوق ملكية محدودة تسهم، في النهاية، في نمو الوظائف والفرص الاقتصادية في الولايات المتحدة والأفريقية. وفي إبريل/ نيسان 2019، شاركت مؤسسة تمويل التنمية مع مستشارة الرئيس وابنته إيفانكا ترامب في إثيوبيا في إطلاق 2X Africa Initiative التي تعهدت بحشد بليون دولار استثمارات لتعزّز المرأة اقتصاديًا. إضافة إلى مبادرة "أفريقيا مزدهرة"، وأنه سيكون هناك للمرة الأولى "مجمع واحد" one-stop-shop داخل الحكومة لدعم الشركات الأميركية الساعية للعمل في أفريقيا. كما كونت الإدارة "فرق الاتفاقات" Deal Teams في البعثات الدبلوماسية في أفريقيا لدعم الشركات الأميركية والعمل مع الحكومات المحلية لتقوية مناخ الاستثمار. وتواصل "مؤسسة تحدّي الألفية" Millenium Challenge Corporation العمل على استثمارات تحولية رئيسة في الدول الأفريقية الملتزمة بالإصلاح والحكم الرشيد، وتوجد نحو 70% من استثمارات المؤسسة في أفريقيا، منها ثلاثة بلايين دولار في اتفاقات مفعلة و1.8 بليون دولار على وشك إنجازها.
يكرر مسؤولون في إدارة ترامب: "إننا شركاء أفريقيا الأساسيون في مجالات مثل الصحة، وتمكين المرأة، وتعزيز حقوق الإنسان ..."
وأكد تيبور ناجي، في ملاحظة خاطفة ومعبرة مستقبلًا، على أن الإدارة تعطي أولوية للتفاوض على اتفاقات تجارة حرة ثنائية مع الدول الأفريقية في العام "المقبل" بدءًا من كينيا. وبالفعل، بدأت واشنطن، في الشهور الأخيرة، مفاوضات لاتفاق تجارة حرة ثنائي مع كينيا، بما يتسق مع رؤية الإدارة الحالية للتبادل التجاري، بدلًا من برامج التفضيل التجاري الأحادي، على الرغم مما يعنيه ذلك من إمكان تحجيم نمو الدول الأصغر حجمًا، والتي قد لا تكون على القدر نفسه من الأهمية بالنسبة لواشنطن، والتراجع عن ضوابط قانون النمو والفرص الأفريقية (African Growth and Opportunity Act AGOA) الذي وقعه الرئيس الأسبق بيل كلينتون في العام 2000، ومنحت بمقتضاه الدول الأفريقية حدًا تنافسيًا بتوفير إعفاء أحادي من الرسوم على الصادرات لنحو 6500 منتج من أفريقيا إلى الولايات المتحدة، وقاد بالفعل إلى نمو طويل الأجل ومستدام، عبر تيسير عمل القطاع الخاص وإيجاد فرص عمل ومعالجة التحديات الهيكلية التي يواجها الإقليم. وعلى الرغم من تمديد "أجوا" مرتين، تنتهي آخرهما في العام 2025، فإنه تعرّض لتهديدات خطيرة، قبل الإعلان عن استبداله مستقبلًا، في الأعوام الأربعة الأخيرة في ظل إدارة الرئيس ترامب، مع فرض رسوم جمركية على منتجات الصلب والألومنيوم الرئيسة، وتعليق استفادة صادرات دول مثل رواندا من الملابس من الإعفاء الجمركي. وقد تقود أية اضطرابات أخرى في "أجوا" إلى كارثة في الإقليم، سيما في المديين المتوسط والبعيد، مع سعي اقتصادات الإقليم إلى التعافي من تداعيات كوفيد – 19.
تراجع الاستراتيجية الأميركية: العامل الصيني
عملت إدارة الرئيس ترامب على تذكير القادة بأنه "لا يوجد من يقترب من الإسهامات الأميركية". وظل مسؤولو الإدارة يكررون: "إننا شركاء أفريقيا الأساسيون في مجالات مثل الصحة، وتمكين المرأة، وتعزيز حقوق الإنسان، ودعم الانتخابات الحرة والنزيهة، ومكافحة عمالة الأطفال، وبناء قدرة قوات حفظ السلام الأفريقية"، وأن على واشنطن تشجيع القادة الأفارقة على اختيار استثمارات أجنبية مستدامة توظف الأفارقة في وظائف جيدة وتضمن نقل المهارات للعمال الأفارقة. وتوصل تيبور ناجي إلى خلاصة أنه، خلال اجتماعه بالقادة الأفارقة في اجتماعات الأمم المتحدة، في سبتمبر/ أيلول 2019، توصل إلى قناعة أن هؤلاء القادة ينظرون إلى الولايات المتحدة شريكا موثوقا ولا غنى عنه لأفريقيا.
لن تشهد ملفات السياسة الأميركية في أفريقيا تغيرات جذرية بأي حال في المدى القصير
وبدلًا من النهج الأميركي الانتقائي في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في أفريقيا، فإن الصين تسعى إلى تغيير اللغة المستخدمة وأدواتها، فبدلًا من الحقوق السياسية أو حقوق الإنسان، تعزز الصين (وتريد من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية حذو حذوها) تعاون الفوز للجميع الذي تقصد به أن الجميع سيستفيد في حالة حفاظ كل دولة على نظامها السياسي، والتأكيد على "الاحترام المتبادل"، بمعنى ألا تقدم دولة ما على انتقاد أخرى. ويلاحظ مراقبون نفاذ مثل هذه اللغة إلى وثائق الأمم المتحدة في أزماتٍ كثيرة في أفريقيا وخارج أفريقيا، ما يشير إلى نجاح صيني متزايد ربما على حساب التصورات الأميركية لأفريقيا كمنطقة نفوذ تقليدي وحصري للغرب.
خلاصة
امتزج الكبرياء بالتحامل في سياسة ترامب تجاه أفريقيا. ويبدو أن واشنطن تعمّدت هذه المقاربة، بهدف إنجاز الأهداف المباشرة لها في القارّة من دون التقيد بأعباء أيديولوجية أو اقتصادية. كما أن القادة الأفارقة، في المقابل، برهنوا، في نهاية المطاف، على قدر كبير من منطقية السياسة الأميركية وبراغماتيتها، وأن كل الطرق تؤدي إلى واشنطن. ولن تشهد ملفات السياسة الأميركية في أفريقيا تغيرات جذرية بأي حال في المدى القصير، وستظل سياسة الانخراط غير المباشر، وبدوائر هامشية في صنع السياسة الخارجية الأميركية، بعد أن ثبتت نجاعة هذه المقاربة في تحقيق أهداف واشنطن بأقل تكلفة ممكنة، وبإعادة تدوير المشروطيات والمحفزات، كما شهدت الحالة السودانية، أخيرا، أبرز مثال على نجاح إدارة ترامب في أفريقيا في تحقيق مكاسب كثيرة، وبقدرٍ لا يستهان به من التحامل على القارة وشعوبها وخياراتهم.