سفر الخروج "الإثيوبي" حتى نهاية الحرب الباردة..

28 مارس 2022

إثيوبيون من الفلاشا لحظة وصولهم إلى مطار تل أبيب (3/12/2020/Getty)

+ الخط -

قرّرت المحكمة العليا الإسرائيلية منتصف مارس/ آذار الجاري استئناف استقبال إسرائيل اليهود الإثيوبيين في أبريل/ نيسان المقبل، وتقرّر مبدئيًا استقبال ثلاثة آلاف شخص، مع ترك الباب مفتوحًا أمام رفع العدد مستقبلًا؛ وجاء القرار، الكاشف حجم الصلات التاريخية بين إسرائيل وإثيوبيا من عدة جوانب، قرب مرور 31 عامًا على ما عرفت بعملية سليمان (مايو/ أيار 1991). وبغض النظر عن المشكلات التي تواجهها الجماعة اليهودية الإثيوبية في إسرائيل في السنوات الأخيرة، ارتبط خروج "يهود إثيوبيا" على مدار العقود الفائتة بالتحولات الإقليمية والدولية بشكل وثيق، كما تكشف الأزمة الحالية في إقليم تيغراي، بالقدر نفسه، الذي يمكن استقراؤه منذ أكثر من قرن في إرهاصات هذا الخروج ونشاطاته اللاحقة.
من روتشيلد إلى "هارلم": اكتشاف "يهود إثيوبيا"
رصد  جيمس كورين J. Quirin في دراسته لتطور اليهود الإثيوبيين وتاريخهم حتى العام 1920، وصدرت في 1992، أي بعد شهور قليلة من عملية سليمان، واعتمدت، بشكل رئيس، على أرشيفات المكتبة الوطنية في باريس وأرشيفات جمعية التبشير الكنسية في لندن CMSA في غياب المصادر الإثيوبية المعاصرة لتلك التطورات، أو ندرتها، باستثناء عدد محدود من النصوص الأمهرية التي تطلبت قدرا كبيرا من التنقيح لمزجها الأسطوري بالتاريخي، وجود "بيتا إسرائيل" في العاصمة الإمبراطورية "قندر" Gondar مع نشأتها منذ منتصف القرن السابع عشر. ورأى أنهم حصلوا على منح في صورة أراضٍ وألقاب لأعمالهم في بناء القلاع والكنائس الجديدة في المدينة، بينما تحوّل بعضهم إلى الخدمة في جيش الملك، وبدأ هذا التحوّل في إيجاد انقساماتٍ طبقيةٍ جديدة "في مجتمع بيتا إسرائيل" بتكوّن نخبة علا شأنها داخل البناء الاجتماعي الإثيوبي، بينما ظلت الجماهير التي لا تملك أراضي تعمل في حرفٍ يدويةٍ مثل الخزف والنسيج وصناعة الخيام. 
ولاحظ تودور بارفيت Tudor Parfitt في مؤلفه "التبشيري" عن اليهود السود في أفريقيا والأميركيتين (2013) أن وجود "الفلاشا" لم يلفت انتباه الغرب بالأساس إلا عبر مؤلف الرحالة جيمس بروس J. Bruce "رحلات لكشف منبع النيل" (1790)، الأمر الذي يثير إشكالية تاريخية خطيرة، في ضوء واقع وجود صلات غربية "إثيوبية" قبل هذا التاريخ بقرون، الأمر الذي ذاع بشكل ملفت في القرن 19. كما تلقى اليهود الأميركيون أخبارًا متواترة عن الفلاشا في الدوريات اليهودية منذ بداية القرن العشرين، ودفع في هذا المسار جاك فيتلوفيتش Jacques Faitlovitch (من اليهود الأشكناز درس اللغات الشرقية في "مدرسة الدراسات العليا" Ecole des Hautes Etudes بباريس، وتخصص في اللغة الأمهرية، توفي 1955) الذي زار الولايات المتحدة مرات عديدة بعد العام 1911، وظل فيها شهورًا عدة في كل زيارة، تمكّن خلالها من جمع أموال طائلة لدعم "بيتا إسرائيل"، وحظيت جولاته بتغطية صحافية يهودية وعامة موسّعة، وأصبح "يهود إثيوبيا" معروفين في نيويورك وغيرها في الولايات المتحدة. وإجمالًا، عزّز سود الولايات المتحدة في الربع الأول من القرن الماضي "النزعة الإثيوبيانية" Ethiopianism، وما تضمّنته من تمجيد تاريخ إثيوبيا بشكل مطلق، بغض النظر عن دينامياته القمعية وتطوراته العنصرية إزاء غالبية سكان إثيوبيا من غير الإثنية الأمهرية "السامية" ضد الشعوب الأفريقية داخل حدودها، وساهمت في ذلك زيارات شخصيات من النخبة الإثيوبية (مثل كانتيبا جبرو ديستا، 1919) لمن عرفوا باليهود السود في هارلم بنيويورك، أو ورقنه إيسهتو مارتن W. Esehtu M. في 1927، وما تلاها من دعاية صحافية بارزة في الصحف الأميركية صاحبت تتويج هيلا سيلاسي في 1930.

وصل نحو 16 ألف يهودي إثيوبي إلى إسرائيل بطرق سرّية 1977-1988 أغلبهم من إقليم قندر

ولكن اللافت في دور "فيتلوفيتش" أن "كشفه" وجود جماعة يهودية في إثيوبيا جاء إثر قيامه ببعثته الأولى إلى إثيوبيا 1904-1905 (بمنحة من المليونير والمصرفي الفرنسي البارون إدموند دو روتشيلد "للبحث عن يهود سود")، ورأى في مؤلفه Notes d'un voyage chez les Falachas (1905) حاجة "بيتا إسرائيل" للدعم لمقاومة النشاط التبشيري المسيحي الذي يهدد بقاءهم "كجماعة يهودية، وفشل جهده في نيل دعم التحالف الإسرائيلي العالمي حينذاك (في إشارة إلى عدم الاعتراف بيهودية "بيتا إسرائيل")، ونظم لجانا داعمة للفلاشا في إيطاليا (القوة الاستعمارية البارزة في القرن الأفريقي) وألمانيا لجمع تبرعات تخصص للتعليم اليهودي لبيتا إسرائيل "في الحبشة وخارجها". وبعد سنوات، فشل نقل نشاطه بعد الحرب العالمية الأولى إلى الولايات المتحدة، وتمكّن، بمساعدة لجنة نيويورك، من افتتاح مدرسة لأطفال بيتا إسرائيل في أديس أبابا في مايو/ أيار 1923، واستقر بدءًا من 1927 في تل أبيب، وظل متنقلًا بينها والولايات المتحدة، ونقل رعاية نشاطه التعليمي (ومنه بعث 25 صبيًا للدراسة في أوروبا وفلسطين ومصر التي كان يقتنع بأن أصل بيتا إسرائيل من أحفاد "حامية يهودية" كانت قائمةً عند جزيرة الفنتين بأسوان جنوبي مصر) في إثيوبيا للوكالة اليهودية بعد قيام "دولة إسرائيل"، وطرح في كتاباته ضرورة إنقاذ "بيتا إسرائيل" من مصيرهم المحتوم بالانقراض إن استمرّوا في "الحبشة". 
وفي أول تقرير أرسله فيتلوفيتش، الذي عدّ لاحقًا الباعث الحقيقي لمسألة الفلاشا، لروتشيلد خلال بعثته الأولى في إثيوبيا (1904) كتب بلغةٍ لا تخلو من نزعة عنصرية تقليدية في عصره: عندما كنت في أفريقيا بين الفلاشا، المحاطين بقبائل أشباه المتوحشين، شعرتُ بمتعةٍ لا يمكن التعبير عنها في تدوين حيويتهم، وذكائهم، وسماتهم الأخلاقية الرفيعة التي تميزهم. ويمكننا الفخر بأن يكون أبناء إثيوبيا النبلاء هؤلاء، ممن يرجعون أصولهم إلينا، بين ظهرانينا، ويعبدون إلهنا، ويمارسون عقيدتنا .. ويتوقون لترك هذه البربرية الأفريقية التي تحيط بهم وتخنقهم، ما يبرهن على أن الشخصية المميزة لعرق(هم) تتغلغل فيهم".  
إسرائيل وإثيوبيا وتحولات "الحرب الباردة"
يلاحظ، على هامش مسألة "بيتا إسرائيل"، بقاء العلاقات الإسرائيلية - الإثيوبية وطيدة حتى بعد سقوط الإمبراطور هيلا سيلاسي إثر ثورة 1974، وحدث الانحراف الأبرز لهذا المسار في أبريل/ نيسان – مايو/ أيار 1977، عندما أمرت حكومة منغستو هيلا ميريام، بالتنسيق مع السوفييت، الولايات المتحدة بغلق مرافقها العسكرية في البلاد وبدء وصول تعزيزات وقوات عسكرية كوبية وسوفييتية ضخمة لدعم أديس أبابا في حرب أوغادين مع الصومال، الأمر الذي أثار الإسرائيليين ووصف موشيه ديان، وزير الخارجية الإسرائيلي في حكومة مناحم بيغن الجديدة حينذاك، بأنها قد أصبحت دولة عميلة للسوفييت، وتزامن ذلك مع تراجع أهمية إثيوبيا في سياسة إسرائيل الخارجية، لا سيما بعد بدء الرئيس المصري، أنور السادات، مسار السلام مع إسرائيل 1977 وصولًا إلى معاهدة السلام 1979. أما في ملف "الفلاشا"، حسب كتاب ستيفن سبيكتور S. Spector "الوثائقي" الأبرز الذي يتناول عملية سليمان (2005) بالتفصيل، فقد جرى العرف بين البلدين على استمرار تقديم إسرائيل أسلحة لنظام منغستو وتدريب جزء من جيشه مقابل سماحه بخروج أعداد من "الفلاشا"، وهو ترتيب لحقه الضرر من تأكيدات "ديان" (المعروف بتعاطفه مع قضية اليهود الشرقيين حينذاك) خلال وجوده في زيورخ (فبراير/ شباط 1978) المعلنة لتقارير نشرت عن طبيعة التبادلات الإسرائيلية الإثيوبية، وإطلاق يد الموساد في جلب "الفلاشا" إلى إسرائيل وفق تفاهمات بيغن- منغستو؛ الأمر الذي دفع إثيوبيا إلى وقف مبادلة الفلاشا بالسلاح، وعزّز موقفها تأمين منغستو حصوله على السلاح من مصادر أخرى، وأقدم على طرد العناصر العسكرية والأمنية الإسرائيلية من البلاد "للمرّة الثانية في غضون خمسة أعوام فقط" (1975 - 1979)، ووصل نحو 16 ألف يهودي إثيوبي إلى إسرائيل بطرق سرّية في الفترة 1977-1988 أغلبهم من إقليم قندر.

إثيوبيان في القدس المحتلة يرفعان صورتين لأقاربهما مطالبين بإحضارهم (25/11/2020/فرانس برس)

وفي المحصلة، وفي تطوّرات تداعي الاتحاد السوفيتي وظهور "نظام عالمي جديد"، فإن نقل "الفلاشا" في مايو/ أيار 1991 كان، حسب ستيفن سبيكتور في مؤلفه عن عملية سليمان (2005)، نتيجة غير متوقعة للسياسة الدولية، وأنها عمليةٌ لم تبدأ في قرى اليهود في إثيوبيا، بل بدأت في موسكو خلال لقاء منغستو بالرئيس السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف (يوليو/ تموز 1988) لطلب زيادة الكرملين مساعداته العسكرية لنظامه لمواجهة تقدم المتمرّدين من إريتريا (قبل استقلالها 1993) وتيغراي والخسائر الضخمة التي تتكبدها القوات "الإثيوبية"، لكن زيارة منغستو موسكو تزامنت، بشكل بالغ الغرابة، مع زيارة هيلا سيلاسي الأخيرة إلى واشنطن قبل سقوطه بشهور، إذ اعتبر السوفييت منغستو "استثمارًا سيئًا"، وأن حروبه وسياساته قادتا إلى مقتل ما لا يقل عن نصف مليون إثيوبي من دون حدوث أي تقدم تنموي، رغم المساعدات الضخمة من الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وبولندا لنظامه (قدر إجمالها بمنح بلغت 12 بليون دولار في 1977-1987)، بينما كان السوفييت يواجهون أزمة مالية خانقة ستتفاقم لاحقًا. ونقل سبيكتور حادث نصح غورباتشوف منغستو، بعد إعلامه بخفض الاتحاد مساعداته بشكل كبير لإثيوبيا بحلول العام 1990، "بالتصالح مع الغرب والوصول إلى تسويةٍ تفاوضية مع المتمرّدين"، كما فشلت مساعي منغستو لدى الصين وكوريا الشمالية في المسار نفسه. وبالفعل، وصف منغستو، في استجابة لنصيحة غورباتشوف ضمن دوافع أخرى، انتخاب الرئيس الأميركي، جورج بوش بأنه "فرصة جديدة لتحسين العلاقات"، الأمر الذي لم يؤدّ إلى أية نتائج على المدى القصير. ومع هزيمة الجيش الإثيوبي المفصلية أمام المتمرّدين في مدينة إندا سيلاسي" Enda Selassie فبراير/ شباط- مارس/ آذار 1989، وسقوط نظام إيريك هونكر Erich Honecker في ألمانيا الشرقية آخر داعم عسكري لمنغستو في أكتوبر/ تشرين الأول 1989، وتبنّي بوش موقفا عدائيا من منغستو الذي كان يوصف في الخارجية الأميركية "جزار أديس أبابا"، وعزّز مواقف بوش المعادية لمنغستو انخراطه مباشرة حينما كان نائبًا للرئيس الأميركي، رونالد ريغان، في عمليتي موسى وسبأ لنقل الفلاشا من السودان (1984-1985).  
وقد كان مبدأ السماح بالهجرة (ضمنيًا لليهود الإثيوبيين) من ضمن الشروط التي نقلها هيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية خلال زيارته أديس أبابا (أغسطس/ آب 1989) لوساطة سلام في الصراع الإثيوبي الدائر، إضافة إلى توصل الحكومة إلى اتفاق مع المتمرّدين، وتحسين أوضاع حقوق الإنسان والتحرّر من النظام الاقتصادي الماركسي. وبدوره، أكد منغستو أنه آخر حائط لمواجهة "تعريب" Arabization القرن الأفريقي، وأعلن استجابته للشروط الأميركية وقبوله وساطة جيمي كارتر في مناقشات السلام مع المتمرّدين، وأنه يفهم ما قصده كوهين من مسألة الهجرة، وعلى الرغم من أنه "لا يعلم سبب اهتمام الأميركيين "بالفلاشا" (في إشارة ضمنية ربما إلى عدم اقتناع منغستو بيهودية "بيتا إسرائيل" حقيقة) فإنه وعد كوهين بالاستجابة لهذا الطلب، وأكّد مسؤولون إثيوبيون لكوهين أن بلادهم دخلت بالفعل في مفاوضات مع إسرائيل "لإعادة توحيد" أسر الفلاشا، وأنهم بدأوا بالفعل في إصدار جوازات سفر لهم.

قدّرت المصادر الصهيونية عدد اليهود الإثيوبيين الذين نقلتهم عملية سليمان إلى إسرائيل بـ 14 ألف فرد

اكتمال الخروج 
كانت إثيوبيا في 1991 في ذروة معاناتها بعد عقود من الحرب الأهلية ومواجهة مجاعة خطيرة، وكانت قوات المتمرّدين تتجه نحو أديس أبابا، ووسط تخوّفات اليهود الإثيوبيين دخل دبلوماسيون أميركيون وإسرائيليون في مفاوضات مع الحكومة الإثيوبية لترتيب عمليات نقل جوي سرّية لنقل اليهود من إثيوبيا إلى إسرائيل. وبعد أن أرسل الرئيس الأميركي، جورج و. بوش، خطابًا إلى الرئيس الإثيوبي الجديد، تيسفاي جبر كيدان Tesfaye Gebre Kidan (شغل منصبه أسبوعا)، جرى الاتفاق بعده في 23 مايو/ أيار على السماح لليهود بمغادرة إثيوبيا "دفعة واحدة". وبالفعل، بدأت "عملية سليمان" في اليوم التالي (24 مايو/ أيار)، وشاركت في العملية 35 طائرة حقّقت إحداها رقمًا قياسيًا لا يزال قائمًا بنقلها ما لا يقل عن 1078 شخصا، بعد خلع مقاعدها. وكانت الوكالة اليهودية وحكومة إسرائيل أهم اللاعبين في تخطيط عملية سليمان، وتنفيذها إضافة إلى مساهمة قوات الدفاع الإسرائيلية، ولجنة التوزيع المشترك الأميركية والرابطة الأميركية لليهود الإثيوبيين والاتحادات اليهودية في أميركا الشمالية. 
وقدّمت المصادر الصهيونية روايات غزيرة لعملية سليمان وتفاصيلها، وقدّرت إجمالي عدد اليهود الإثيوبيين الذين نقلتهم العملية إلى إسرائيل بـ 14 ألف فرد. وقبل نهاية العام 1991، نقلت إسرائيل 2600 يهودي إثيوبي آخر. وحسب المصادر الإسرائيلية، دفعت تل أبيب 35 مليون دولار لنظام منغستو "ظل حتى أيام قبل عملية النقل رئيسًا ديكتاتوريًا لنظام ماركسي" (حسب وصف هيئة التلغراف اليهودية JTA) كي يسمح بالعملية، واستأنفت إسرائيل عملية النقل بمفاوضات سرية مع نظام ميليس زيناوي عبر آشير نعيم Asher Naim (سفير إسرائيل في أديس أبابا). وفي الوقت نفسه، حثّ وزير الخارجية، ديفيد ليفي، الإدارة الأميركية على استخدام نفوذها لدى النظام الإثيوبي الجديد. ونسق العملية ميخا فيلدمان Mecha Feldman المسؤول البارز في "الوكالة اليهودية" منذ بدايتها حتى إتمامها في نهاية العام 1991.
وانتهت آخر الرحلات الإسرائيلية لنقل اليهود الإثيوبيين في 27 يوليو/ تموز 1992 بإعلان رسمي من سميحا دينيتز Simcha Dinitz رئيس الوكالة اليهودية ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية WZO برحلة أقلت 40 مهاجرًا، وترك نحو 300 يهودي في الإقليم الشمالي (تيغراي) متفرّقين في القرى، حتى نقلهم بشكل متقطع بعد سبتمبر/ أيلول 1992، بينما ترك من لم يلحقوا بالطائرات الإسرائيلية في مطار أديس أبابا "في حماية مسؤولين إسرائيليين". ووصل إجمالي عدد اليهود الذي نقلوا من إثيوبيا إلى إسرائيل منذ الثمانينيات إلى حوالي 45 ألفًا. وكشفت العملية، حسب تقارير نقلتها هيئة التلغراف اليهودية JTA، عن تركّز جماعة يهودية في "إقليم قندر" تبلغ عشرات الآلاف "ممن اعتنقوا الديانة اليهودية" (بعد أن قدّرهم سميحا بعشرة آلاف)، إضافة إلى ثلاثة آلاف فرد في العاصمة أديس أبابا.

جاءت "عملية سليمان" تجسيدًا لتاريخ ممتد من تكريس الأفكار الصهيونية عن "اليهود السود"، بغض النظر عن دقتها التاريخية

خلاصات
جاءت "عملية سليمان" تجسيدًا لتاريخ ممتد من تكريس الأفكار الصهيونية عن "اليهود السود"، بغض النظر عن دقتها التاريخية، أو طبيعة صلتها بالسياسات الدولية بالأساس، لصالح "تسليع" صورةٍ نمطيةٍ عن اضطهاد "اليهود" امتدت، بمكوناتها نفسها تقريبًا، من الأسر البابلي والخروج من مصر إلى عمليات البساط السحري وموسى وسليمان وغيرها. ولا يمكن التقليل من حزم "المشروع الصهيوني"، ونجاحه الملفت في واقع الأمر، في سياسات التسليع هذه منذ مراحل مبكرة نسبيًا وحتى منتج "منتجع البحر الأحمر" في حالتنا هذه. ولعل مثال المفكر اليهودي الإنكليزي "إسرائيل زانغويل" I. Zangwill، أحد رواد تيار "الصهيونية الثقافية" (1864-1928)، في علاقته مع تيودور هرتزل، كما روى جانبًا منها جورج بورنشتين G. Bronsten في كتابه Colors of Zion (2011)، كاشفًا عن طبيعة هذا التسليع وسماته الثابتة أو الموروثة؛ فقد عُرف زانغويل بتبنّيه في فترة مبكرة أفكار التمايز بين المجموعات السكانية المتنوعة "عرقيًا" مع الاقتناع العميق بأن هذه المجموعات نفسها هي خليط (ثقافي) من المجموعات الأخرى. 
وعندما التقى هرتزل للمرة الأولى في 1895 لم يرق للأخير فكرة الأول عما اعتبرها "البنية الضيقة نسبيًا للهوية اليهودية"، ورأى هرتزل في نقده الموجّه مباشرة إلى زانغويل أن "رؤيته عرقية - ولا يمكنني قبولها... إننا وحدة تاريخية، أمة ذات تنوع أنثروبولوجي، ولا توجد أمة بها وحدة عرقية"، كما احتفى هرتزل لاحقًا "بالأمور الرائعة" عن اليهود الأكراد والفرس والهنود "وحتى الزنوج اليهود الآتين من الهند، وهم أسلاف العبيد". ولوحظ بعدها بشهور قليلة تبنّي زانغويل، بشكل متصاعد، موقف هرتزل عن التنوع الإثني داخل كل عرق، بما في ذلك العرق اليهودي. وفي كلمته التي حظيت باستقبال رائع أمام المؤتمر العرقي Race Conference (1911) في لندن قدّم رصدًا موسعًا لتاريخ اليهود وأوضاعهم الراهنة قبل تغيير رأيه المبدئي جوهريًا بإقرار أن اليهود، وإنْ كانوا بالأساس شعبًا أبيض، لا يخلون من هوامش (عرقية) ملونة، سواء سود أم بنيون أم صفر، فهناك بني إسرائيل في الهند، والفلاشا في الحبشة، ومستعمرة كاي - فونج فو المختفية في الصين...".   
وتشي تقاطعات السلوك الصهيوني العتيد في ظاهرة "الفلاشا"، وقسر أيديولوجيات وأفكار ونظريات متباينة لصالح المشروع الصهيوني بحالة مستمرّة من مزج التاريخ بالأسطورة بالسياسات الدولية وبالمصالح الآنية والمستقبلية "لدولة إسرائيل" ومكوناتها. يتّضح ذلك في مظاهر شتى، سواء في إنتاج فيلم "منتجع البحر الأحمر" الدعائي في 2019؛ أم في تكرار المقاربة الإسرائيلية تجاه الأزمة الإثيوبية نهاية العام الماضي بالإسراع بإجلاء عدد من أقارب الإسرائيليين الإثيوبيين من إثيوبيا، والبدء بأقارب الدرجة الأولى الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف إثيوبي (وفق اتفاق إجلاء في 2015)، في تكرار مصغر لعملية سليمان، ومن دون استبعاد تشابك الترتيبات الدولية التي قد تتكشّف لاحقًا.