أين يقيم كاتبُك الوطني؟
يحتدم هذا الجدل مع رحيل الكُتّاب الوازنين، على الرغم من قلقِ العبارة في العربيّة. كان دخول فولتير البانثيون سنة 1791 ميلاداً رسميّاً لمفهوم الكاتب الوطنيّ في الغرب. لكن هذا المفهوم لم يستقرّ تماماً في الثقافة العربيّة. وهَبْ أنّه فعَلَ، هل ظلّت هذه الثقافة سخيّةً بمزيد من هؤلاء الكتّاب المشتبكين المنخرطين في الحياة العامّة على غرار طه حسين والطاهر الحدّاد وغسّان كنفاني وإدوارد سعيد وإلياس خوري ونوال السعداوي وأمثالهم، أم أنّ هذه النوعيّة من الكتّاب أصبحت نادرة مع تطوّر وسائل القمع والترويض والإغواء وطغيان نزعة الاستهلاك على الفضاءات الاتّصاليّة والتواصُليّة؟
يحتدم هذا الجدل كلّ مرّة مع رحيل الكتّاب الكبار. ويحتدم أكثر مع تفاقم الآفات المصاحبة: تراجع مكانة الكِتاب. تقلّص عدد القرّاء. تغييب الكُتّاب عن المشهد. استشراء نزعة التسليع والاستهلاك. استيلاء صانع الرأي على صفة المثقّف مدجّجّاً بأسلحة الحروب الخوارزميّة. كيف يمكن تبيَّن الكاتب الوطنيّ بهذا المعنى فيما يكاد يتعذّر تحديدُ ملامحِ الكاتب في المطلق؟
لا تقف صعوبةُ تحديد هويّة الكاتب الوطنيّ عند هذا الحدّ. المطلوب منه في صورته الأولى أن يكون كاتبَ بلادِه في الداخل ورايتَها في الخارج. أن يعبّر عنها محليّاً عن طريق قرّائه، وأن يمثّلها في المحافل الدوليّة بوساطة الترجمة. أن يقول بلاده بلغته وأسلوبه وحضوره وتأثير أفكاره، وأن يقول فرادتَهُ في الوقت نفسه. كيف يمكن لكاتبٍ بهذا التفرّد أن يكون محلّ إجماع بهذا المعنى؟
ليست المسألة بالأوتوماتيكيّة التي يمكن تصوّرها. قد تظنّ أنّ فرنسا مثلاً تعجُّ بورثة فيكتور هوغو، لكنّك سرعان ما تشكّ في ذلك، حين تقرأ في إحدى افتتاحيّات الماغازين ليتيرار تأكيداً على استبدال النخبة بالمشاهير واختزال ممثّلي الروح الوطنيّة في قوائم الشخصيّات الأكثر شُهرة (Top 50)، حيث تبحث عبثاً عن أسماء الكاتبات والكتّاب، وكأنّ "المرآة الوطنيّة" لم تعد قادرة على التعرّف إلاّ على نجوم الشوبيز.
أنت في حاجة حقّاً إلى كاتب وطني مبدع صاحب رؤية وموقف، كاتب حرّ مستقلّ لا يسمح بتوظيف قلمه لأيٍّ كان، يعمل فرداً داخل نصّه، ويعمل عضواً في فريقٍ خارج النصّ. لكنّك كثيراً ما تصطدم بنقيض هذه الصورة. وكأنّ تعلّقك بمفهوم الكاتب الوطنيّ هو استمرار للهوس الجماعيّ بسيّد الأدباء وأمير الشعراء وغير هذه من الألقاب، في سياق ثقافة لم تعرف بعد كيف تخرًج من مربّع الأحاديّة: الرأي الواحد، الحزب الواحد، الحاكم الواحد، الكاتب الواحد.
أنت إذاً أمام تجاذب بين قطبين: قطب سائر إلى الأفول تحافظ على إدامته السياسةُ عن طريق تطويب كُتّابٍ معيّنين وإلحاقهم بالبانثيون في طقوس شبه دينيّة. وما كان لذلك أن يحدُث لو لم يكن تكريسُ كاتبٍ على حساب آخر يعني تكريسَ سرديّةٍ في مقابل أخرى، وتحويلها إلى سرديّة جماعيّة وأحيانًا "رسميّة".
وقطب صاعد مرتبط بتغيير النظر إلى هويّة الكاتب في سياق علاقته بالزمان والمكان. حيث لا ترتبط الوطنيّة بخدمة اللحظة بقدْر ما تتوق إلى القدوم من المستقبل. نقرأ في مجلّة ميديوم التي أدارها ريجيس دوبريه حتى 2004، وفي العدد الخاصّ بهذه التيمة، أنّ لوثر قد يمثّل اليوم الروح الألمانيّة أكثر من غوته، لأنّ معظم أعمال غوته لم تعرف كيف تتجاوز حدود التعبير عن زمنها، وأنّ زمن الكاتب الوطنيّ قد ولّى، لأنّ الكاتب (موديانو مثلاً) يبني أثره، في أحيانٍ كثيرة، ضدّ اتّجاه التاريخ وضدّ هويّة بلاده، كما هي متحقّقة ومتجسّدة في زمنه.
يحتدم هذا الجدل مع رحيل الكتّاب الكبار، فتكاد تلوذ بالسخرية ما إن تسمع السؤال "أين يقيم كاتبك الوطنيّ اليوم؟". تقول إنّه يقيم في الأرشيف، أو في المقبرة، خاصّة حين ترى كيف تُغدق عليه ألوان المدائح، ما أن يُطمأنَّ إلى هجوعه في مثواه الأخير. ثمّ تفضّل أن تراه شبيهاً بالحقيقة يقيم دائماً في مكان آخر، في الأوطان حين تصبح أوطاناً. حين تتراجع شيئاً فشيئاً الثقافةُ الأحاديّة والمشهدُ الأحاديّ وتصعد إلى الصدارة ثقافةُ التعدّد. ثقافة تخدم فرادة الكاتب من دون أن تعزله. تتجاوز به المعارك الهوويّة وتضع موهبته في حوار مع قيم الإنسان ومع روح بلاد الكتابة بتعدّدها وتنوّعها واختلافها. هناك تولد الثقافةُ الوطنيّةٌ الجديدة، ويولد الكاتب الوطنيّ الجديد، الكاتب الذي يسبقُ زمنَه ويفارقُ مكانه ويصنع نفسَهُ خارج سياق كلّ إجماع، ولا يكفّ عن انتظار قارئه في المستقبل.