أين غزّة في اليوم العالمي للغة الأم؟

23 فبراير 2024

(شيرين البارودي)

+ الخط -

لو نبتعد قليلاً عن التحليلات السياسية والتخمينات والاقتراحات ومتابعة الفعاليات الرسمية والدولية وفي مجالس الهيئات والجمعيات التابعة للأمم المتحدة وغيرها، فهناك عمق خفي للحياة في غزّة الواقعة تحت حرب بلغت آماداً لا يمكن تصوّرها وقبولها في الوحشية والإجرام، عمق تصاب فيه الحياة في شرايينها التي يسري فيها النسغ، كما لو أن سمّاً مديداً يُدس فيها بمكر، يَعدُ المجرم بموت كما يهوى في المستقبل. هذا الموت ربما لا يلتفت إليه إلّا قلائل أمام الموت الفاجر الذي يحدث بلا أدنى حدّ من المحاسبة للمجرم، إنّه موتُ أجيال عاشت طفولة مجروحة "اللغة الأم" منذ أول احتلال لغزّة، انطلاقاً من أنها عاشت هذه العقود تحت الحصار أو تحت الحرب، فلو أحصينا الحروب التي شنتها إسرائيل على القطاع لرأينا ان أجيالاً من الأطفال ولدت وكبرت ولم تراكم في ذاكرتها غير القلق والخوف والتهديد الوجودي، حياة يحاول الاحتلال تفريغها من كل معاني الحياة.
كل عام، تحتفي الأمم المتحدة باليوم الدولي للغة الأم في 21 فبراير/ شباط. وترمي المنظمّة إلى تعزيز اللغات البشرية بما أن 45% من أصل سبعة آلاف لغة يتحدّثها الناس على الكوكب مهدّدة بالانقراض، وما يستخدم منها في الفضاء الرقمي لا يتجاوز المائة لغة. صحيح أن "اليونسكو" خصّصت يوماً للغة العربية، واللغة العربية ليست مهدّدة بسبب الحرب على غزّة، لكن ما يهدّد سكان غزّة الذين يبلغ عددهم مليونين وثلاثمئة ألف شخص، هو تشظّي حياتهم بسبب استهداف النساء والأطفال، بسبب اغتيال كل لحظة يمكن أن توفّر فرصة لعيشٍ يليق بالكائن البشري مثل بقية الأفراد في العالم، هذا التشظّي الذي سينسحب على كل مجالات الحياة، ومنها اللغة.
ما هي اللغة الأم؟ واحد من التعريفات التي وضعها علماء اللغة والاجتماع والإنسانيات للغة الأم هو الأكثر صدقاً وشفافية، "هي اللغة التي يتعرّض لها الشخص منذ الولادة، أو خلال الفترة الحرجة"، ومن هو أول شخص يتعامل معه الوليد غير الأم؟ وهي عامل رئيس في تشكل الهوية الشخصية والاجتماعية والثقافية الخاصة به وتطورها، ووسيلة تعدّ انعكاساً وتعلماً للأنماط الاجتماعية في التمثيل والتحدث.

اللغة الأم تلك التي يبدأ الطفل يألفها وهو بعدُ جنين في رحم أمّه، فتلك العلاقة "السرّية" بينهما لا أحد يستطيع فهم مفرداتها

اللغة الأم تلك التي يبدأ الطفل يألفها وهو بعدُ جنين في رحم أمّه، فتلك العلاقة "السرّية" بينهما لا أحد يستطيع فهم مفرداتها وسماع إيقاعاتها والشعور بدفئها وعاطفتها غيرهما، هذه العتبة الأولى التي تفضي إلى "مدرسة" الحياة، فيها تتابع الأم تغذية الحياة ورعايتها لدى وليدها حتى يقوى عوده قليلاً وينطلق إلى رحابها، لكنها أهم المراحل في بناء الإنسان وبناء منظومته اللغوية والمعرفية، بل تكوينه عامّة. وفيها يتعلم، بينما يتعلم اللغة، القدرة على فهم الذات والآخر والقدرة على التعبير عن الأفكار. 
كيف للغةٍ أن تنتعش في ظل حربٍ من هذا النوع؟ حرب ممتدّة، اليوم الذي يصفونه باليوم التالي مديد، ضارب في أمس غزّة ويمتد إلى مستقبلها، غزّة التي لم تعرف غير الحصار والحرب، تسعى إسرائيل إلى تجفيف موارد الحياة كلها فيها، فلا يبقى معنى للبهجة في وجدان ساكنيها، وأكثر من يحتجن البهجة هنّ الأمهات. فكيف لطفلٍ أن يشعر بالأمان بينما حضن والدته، إن حضر، مترع بالقلق والخوف؟ 
اعتادت المرأة الفلسطينية، شأن كل أمهات الأرض، أن تترنّم بالأغنيات لطفلها منذ تكونه في رحمها، لا تغني الأغنيات الشعبية التي ترتبط بحياة الإنسان ارتباطا وثيقا منذ ولادته، فحسب، بل تبتكر الأغنيات والترانيم والألحان بينما تسبح في بحر عواطفها الدافئة وهي تهدهد صغيرها. وتترنّح بما يتناغم وحركات إيقاع المهد، أو حركات يديها ورجليها إن نام في حضنها، تعده بأغانيها بأن الملائكة تحرُسه، وأن الهدايا تنتظرُه، وتحبّبه بكائنات البيئة. كلنا يعرف أغنية "يلا تنام يلا تنام لـ جبلك طيرين حمام"، كما تتضمّن الأغاني عديداً من أسماء "الطيبات" لدى ذائقة المحيطين، كالفستق واللوز والجوز وغيرها، وتعده بأنه سيأكلها عندما تظهر أسنانه ويصبح قادراً على أكلها: "صباح الخير يا لوز بدي لحبيبي جوز/ يكون غني وفرحان ويملّي الخوابي جوز/ صباح الخير بزيادة يقلع عين الحسّادة".

الطفل الفلسطيني حرمته الظروف من ألعابه وانتزعنه من طفولته، وهدمت مدرسته وحرم من وسائل التعليم الأخرى

ينام الطفل نوماً هادئاً "تحرُسه الملائكة"، وينتظر الـ"الهدية"، أو ربما نام على خيال ينمو ويكبر وهو يستعيد الحكايات التي كانت تحكيها له قبل النوم، برقتها وصوتها الهادئ، خصوصاً إذا كان الطقس الذي سبق هو طقس الـ "الحمّام"، الذي ينام الطفل بعده نوماً هادئاً هانئاً. 
"الطفل اللي ما بنام وبظلّ يبكي يا بكون جوعان أو بكون موجوع أو موسّخ على حاله"، هذا ما تحكيه الأمهات والجدات في جلساتهن، ما ينصحن به أمّاً طفلها يبكي، ويقلن أيضاً: "الراحة غلبت السّراحة والنوم دلايل العافية". فماذا عن طفلٍ لا ينام ولا يستحم ولا يأكل ولا يلعب؟ كيف ينمّي مهاراته اللغوية والحبال "اللغوية" التي تربطه بأمه وأسرته ورفاق حارته والمدرسة، قطعت كلها ولم يبقَ في بيئته غير القنابل والصواريخ والطائرات "الزنّانة" وغيرها؟
الطفل الفلسطيني حرمته الظروف من ألعابه وانتزعنه من طفولته، وهدمت مدرسته وحرم من وسائل التعليم الأخرى، التلفزيون والسينما التي يشاهد بهما برامج ترفيهية وتعليمية، وانتهاء بما يغنيه هو في ألعابه مع أترابه، فلم يبق في محيطه مكان للعب، ضاقت بالطفل الفلسطيني في غزّة حتى مساحة نومه، هذا طفل محروم من كل شيء، من ترنيمات أمٍّ لم تعد تجيد حتى "الحزن"، لم يبقَ في وجدانها غير القهر والخوف والقلق والترقب و... الصمت. لقد علّمتها الحرب الصمت، فانقطع حبل الوصال والتواصل بينها وبين أطفالها، الصمت الذي لا تقطعه إلّا صرخات الخوف أو الهلع أو الندب، أو الصراخ: يا وليدي" بينما تحضن الأم جثة ابنها الذي اغتالته يد الغول.

عن أي "لغة أمّ" يتحدّث العالم وترصد لها اليونسكو يوماً للاحتفاء بها، وفي غزّة اليوم لم يبقَ مكان للبهجة؟

عن أي "لغة أمّ" يتحدّث العالم وترصد لها اليونسكو يوماً للاحتفاء بها، وفي غزّة اليوم لم يبقَ مكان للبهجة، لم يبقَ مكان للحلم، لم يبقَ مجال لفهم ما يحدث، وفهم الذات، وفهم الآخر. الحرب الوحشية اغتالت كل شيء، وانقطعت الحبال السرية بين الأمهات وأطفالهن، فأي لغة ستبقى في ذاكرة هذه الأجيال المغدورة؟ أيّ مفردات ستكرسها الحرب في وعيهم، وأيّ صيغ للحياة؟
كُتب في موقع اليونسكو "هناك اليوم وعي متزايد بأن اللغات تلعب دوراً حيوياً في التنمية، وفي ضمان التنوّع الثقافي والحوار بين الثقافات، ولكن أيضاً في تعزيز التعاون وتحقيق التعليم الجيد للجميع، وفي بناء مجتمعات المعرفة الشاملة والحفاظ على التراث الثقافي، وفي تعبئة الإرادة السياسية لتطبيق فوائد العلم والتكنولوجيا على التنمية المستدامة". فأين الشعب الفلسطيني عموماً، وفي غزّة خصوصاً من هذا التنظير؟ وبماذا يفيد الكلام عن التنمية المستدامة، والحياة مهدّدة لديه بألا تكون مستدامة؟
يحتاج الاحتفاء باللغات الأم أكثر ما يحتاج إلى صون الحياة قيمة عليا يستحقها كل البشر من دون تمييز، بعدها تُحفظ اللغات وتزدهر، ويصبح كل أفراد البشرية مساهمين في صناعة الحياة، وليسوا واقعين بغالبيتهم تحت تهديد الموت الجبار، كما تفعل إسرائيل بوحشيّتها اليوم.