أوروبا إلى فقدان وزنها ومصداقيّتها

16 مارس 2024

(Getty)

+ الخط -

حربان أفقدتا أوروبا توازنها، وأظهرتا حجم العجز الذي تعانيه في مجال القوة العسكرية التي كانت تفتخر بها في وقت سابق. وثانياً، خيانتها المبادئ التي ساهمت في إنتاجها وتصديرها حتى أصبحت منظومة كونية.

تعاقَب الحدثان قبل أن يتزامنا في التوقيت وفي الاستمرارية. الأول الحرب الروسية الأوكرانية. بدا المشهد وكأنه اعتداء روسيا على دولةٍ جارة. ولكن ما تبيّن، مع تطوّر الأحداث، أن أميركا وبقية دول حلف الناتو شجّعا الفريق الحاكم في كييف على مناوشة الجار الروسي، ظنّاً منهم أن الرئيس الروسي بوتين الذي أصبح يشكّل عقبةً جدّيةً أمام المعسكر الغربي بقيادة واشنطن الذي يريد أن تبقى له حصّة الأسد في مختلف مجالات القوّة والثروة. هكذا توقّعت قيادات "الناتو" أن الحرب ستكون نزهة قصيرة، فإذا بالمؤشّرات تؤكّد خلاف ذلك.

يقرّ عديد الخبراء الأوروبيين بأن كل الأهداف التي وضعها حلف الناتو فشلت، وأن حساباته سقطت في الماء. أصبح بوتين أقوى مما كان. لم تتراجع القوة الروسية التي حاول الغرب أن يدمّرها، وإنما على العكس من ذلك تعزّزت هذه القوة، خصوصاً على الصعيدين العسكري والاقتصادي. وبدأ الجميع يتأكّدون من أن "الناتو" لم يعد قادراً على مواصلة الحرب، وخصوصاً أن أميركا اقتنعت بأنه لا جدوى من الاستمرار في تمويل هذه المعركة الخاسرة. وهو ما من شأنه أن يضع الحكومات الأوروبية في مأزقٍ تاريخيٍّ قد يكون غير مسبوق.

تشنّ الحرب الثانية إسرائيل ضد غزّة. في البداية، هبّ قادة أوروبا للاصطفاف مرّة أخرى وراء دولة الاحتلال، وتوجّه عديدون منهم نحو تل أبيب لتقديم الدعم والمساندة للحكومة الأكثر يمينية وغباء وإجراما في تاريخ إسرائيل. وكلما بالغت الحكومة الصهيونية في قتل المدنيين وتدمير غزّة، وارتكاب مجازر لم يشهد العالم مثيلاً لها، كلما ازدادت، في المقابل، الحكومات الغربية انكشافا أمام شعوبها، وتبيّن زيف ما تدّعيه من ديمقراطيةٍ ودفاع عن حقوق الإنسان وتعلق بالقانون الإنساني وحقوق النساء والطفل وغيرها من المبادئ السامية. هكذا عرّضت هذه الحكومات نفسها لنقدٍ متزايدٍ من عدد من مثقفيها والصادقين من نخبها.

من هؤلاء الأوروبيين النزهاء نقف عند مثالين: الأول رجل دين محترم توفّي منذ سنوات. من يتذكّر الأب لابي بيار، ذلك الزاهد الفرنسي المقاوم الذي اعترف، بشجاعته المعهودة، قائلاً: "نحن هتلر الكاثوليك الذين ارتكبوا المحرقة ضد اليهود، بعدها جعلنا المسلمين يدفعون ثمنها، رغم أنه لا يوجد أي مسلم شارك في تلك الجريمة. وخدعنا الفلسطينيين عندما قلنا لهم، بكل خبث، أن يبتعدوا عن أرضهم بضعة أشهر وسنعيدها إليهم، ثم كذبنا عليهم. توفي هذا العجوز الذي دافع عن الفقراء إلى آخر لحظة من حياته، قبل أن يشهد الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة على أيدي الصهاينة الغزاة.

أما المثال الآخر فهو لسياسي يتعرّض حاليا لهجوم كاسح من التيار الصهيوني، هو دومينيك دي فيلبان، الذي شغل منصب وزير أول في فرنسا. قال: الحلّ الوحيد لوضع حدٍّ لهذا العنف تحقيق العدالة. والعدالة تتم من خلال فتح المجال لحلٍّ سياسيٍّ للفلسطينيين قائم على خطّة حقيقية لسلام يعطي لهم الحقّ في أرض تشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى جانب قطاع غزّة. ... وعندما سألته الصحافية: هل تقصد التخلّي عن كل المستوطنات؟ أجاب بكل ثقة من دون تردّد أمام السؤال الفخ: عندما غادرنا الجزائر كان هناك حوالي مليون فرنسي، والآن يوجد خمسمائة ألف إسرائيلي يسيطرون على الضفة ومائتا ألف في القدس الشرقية. هؤلاء يجب أن يغادروا تلك الأراضي. هكذا التاريخ وذلك ثمن الأمن.

يزداد الوعي بالحقيقة ويتسع في صفوف النزهاء بكامل الدول الغربية. وهو ما يؤكّد أن الغرب في أزمة، وأن هذه الأزمة في توسّع دائم. ولكل أزمة نهاية مهما طالت. العالم مُقدمٌ على مرحلة جديدة سيُعاد خلالها ترتيب الأوضاع بناء على منظومةٍ مختلفة.