أن تُساق إلى مارغريت دوراس بلا سبب
هل في الكتابة وقبولها سحر وحظ كالحب أو الغواية؟ غواية تأخذك من دون أن تعرف السبب، فغالبا كل الأسباب في الكتابة وتأثير غوايتها محض تفاسير مملّة، كباب رزق وتأويل لعمل الناقد، وتطاحن القبول والرفض وعصابات الأدب والكتابة وغيتوهات الفن والأدب والسياسة. وتظل مارغريت دوراس لي غوايةً تأخذني من أي مناسبة، حتى وإن كانت مناسبة جائزة نوبل وصخبها، إلى ذلك الفخّ الذي نصبته مارغريت في بيتها وأيقونة وحدتها، وحدة الكتابة والعشق المطلق لستين سنة، شغوفة بالعشق، حتى وإن كان مدمّرا أو رومانسيا أو غير مطابقٍ للمواصفات المجتمعية، هل لأن طفولتها وصدر شبابها شهدا حضاراتٍ متداخلةً في الهند الصينية والشرق عامة؟ هل لأنها أقدمت على الكتابة والسياسة والحب، ليس بآلية باريس وتأنّقها وهوس الغرب عامة وفقا للشكل أو التنميط، فظلّت وحدتها هي بيتها وكتابتها وعشقها، وبعد الكتابة لم تلتفت إلى أي خسارة ما في حياتها، حتى خسارة عشّاقها رغم كثرتهم وتنوعهم؟ واضح أن كل التفاسير أبوابٌ لغوايةٍ معرفيةٍ ضالة من دون أن نعرف السبب؛ وهل هناك من سبب واضح للسحر أو الفتنة؟
"أن تكتب"، وهو عنوان أحد كتبها، أن تتخلّى تماما عما يعوق وحدتك أو يعطّلها، رغم الشك الذي يملأ الكتابة، إلا أن مارغريت دوراس تجعل الشك مفتاحها دائما للدخول في الكتابة، حينما تقول: "الشك أن تكتب"، اليقين معطّل للكتابة، وحتى معطّل للبحث العلمي، اليقين هو عمل الناقد المدرسي الذي يحاول جاهدا بعد أن يتصبّب عرقا أن يقنع التلاميذ في الفصل بالمعاني والبيان ونيّة الكاتب ومراميه البعيدة.
هل قادت الكتابة مارغريت دوراس إلى الوحدة، أم هي التي استطاعت أن تبني وحدتها في منزلها من أجل الكتابة؟، تقول: "إن وحدة الكتابة لهي وحدة بدونها لا ينتج المكتوب، أو سيتفتّت باحثا عما يمكن أن يكتبه". وتتكلم عن الكتابة كجبل هناك خلف ظهرها يحميها من كل العالم وارتباكه وصخبه وتموّجاته، قائلة في ثقة قلّ أن يقولها كاتبٌ أو كاتبة من هؤلاء الذين ينتظرون الوحي من الكتابة، تعلن ذلك بكل وضوح وشفافية: "الكتابة لم تغادرني قط"، هل لأنها دفعت ثمنها من روحها قبل أن تُقدم عليها، ولذا هي دائما لا تغادرها؟ هل الوحدة كانت سلاحها من أجل الكتابة، سلاحها الخاص جدا؟ تقول: "نحن لا نجد الوحدة، بل نصنعها"، ثم تعود إلى الشك ثانية، وتقول: "بوسعي قول كل ما أريده، لكني لن أجد أبدا لماذا أكتب، ولا كيف نكتب".
كان البيت أول وتد وآخر وتد يربطها بالأرض والكتابة والابن أيضا. بيت كأنه التاريخ وقد اندثر، إلا أن روائح التاريخ ما زالت تطنّ في الغرف، غرف الملّاك القدماء له، وكأنها فقط تستأنس بالماضي، معها، في غرفتها مع الشجر، وكأن التاريخ يحيا معها في البيت من دون أن تنتبه له أو يشاغلها، بل تنساه تماما في الأركان كالبيانو حينما تكتب. الكتابة كانت عبادتها الأولى، عكس السينما التي تعرف مقدّما ما سوف تفعله وتعده، وكأنها هتكت السر قبل القدوم إليه، وذلك عكس الكتابة تماما؛ تقول: "فقد أصبح لي أخيرا بيتٌ أختبئ فيه لأكتب".
قال عنها لاكان عالم النفس الشهير وتلميذ فرويد: "إنها لا تعرف أنها تكتب وهي تكتب، لأنها ستضيع، وستكون مصيبة"، فهل الكتابة قطيعةٌ تامة عما نعرفه يوميا ونعيشه ويحاول أن يلاحقنا، ولكننا نهرب منه بجنون الكتابة ومكرها؛ تقول مارغريت دوراس: "الكتابة توحّشك، تلحقنا بوحشية ما قبل البشرية".
ما سر هذه القوة التي تتلبس مارغريت دوراس، حتى تجعلها عاشقة ووحيدة تماما وقوية أمام مجهول بداية الكتابة التي ما هجرتها أبدا، تقول: "ينبغي أن تكون أقوى منك للإقدام على الكتابة، تحتاج أن تكون أقوى مما تكتبه"، "لكم تأخذ الكتابة بعيدا ... الذين نعرفهم "مثلا" ننكرهم، ومن لا نعرف نتصوّر أننا سمعناهم من قبل".
أتذكّر أنني قرأت مقولة لمتصوّف عربي لم أفهمها، ولا أدركت تلك المرامي الكامنة في قسوتها، ولكن روحي الهشّة جدا داخلي تمسّكت بها، وهي للأمانة ليست بعيدة أبدا عن جوهر كتابات مارغريت دوراس، "قيل لعارف انصحني فردّ العارف: أنكر من تعرفه، قال له زدني، قال: لا مزيد".