أميركا وروسيا والصين ... وتجاذبات الصورة

02 مايو 2023
+ الخط -

في حمأة الصراع على الأدوار العالمية، بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، مع تحقُّق الظروف التنافُسية، بعد اهتزاز الهيمنة الأميركية، عالميًّا، ولِتغيُّرات، أو تفاعلات داخلية تمسُّ طبيعةَ النظام السياسي في واشنطن، وتوجُّهات الدولة الأولى في العالم؛ بين القيم الديمقراطية في الحكم والمجتمع، والتوجُّهات اليمينية الأقرب إلى الانعزالية، كما تجسِّدها ظاهرة الرئيس السابق ترامب، برز الطموح الروسي، وبما لا يقلُّ عنه، بل بما يزيد عليه، الصيني؛ لمَلء الفراغ، أو لإعادة صياغة العلاقات الدولية، وإعادة تموضع مراكز الدول الطامحة، في حالة عالمية تتشكَّل. ومع أن التنافُس على نَيْل الصورة الأقرب إلى العدالة والإنسانية يتقدَّم خطابَ تلك الدول، وخصوصًا في فترة ولاية الديمقراطيين، أميركيًّا، إلا أن المتابع لا يجد كبيرَ عناء في إدراك ذرائعيَّة هذه الصورة أو أداتيتها.
تتعدّد أبعاد هذه الصورة المتنازَع عليها من الصين وروسيا، ثم أميركا، من فكرة التعدُّد، مقابل احتكار الهيمنة، ومن متطلَّبات الدور؛ (المعتدل صينيًّا، مقابل المتطلِّب، أميركيًّا)، إلى البُعْد الإنساني، أو الأخلاقي. فمِن المفيد صينيًّا وروسيًّا ترويج فكرة تعدُّد الأقطاب، وهي فكرة تغري الدول والشعوب الواقعة تحت الهيمنة؛ الراغبة في هامشٍ أوسع؛ من القرار الذاتي الحقيقي، أنْ تتحرَّك، وتتطلَّع؛ عندما يُتاح لها أن تختار، أو تتخيَّر، بين ما تعرضه الولايات المتحدة، أو ما كانت تفرضه فرضًا، وما تعرضه الصين، ثم روسيا؛ في سياق الأثمان التي تطلبها الدولة الكبرى الطامحة إلى دور، من متطلبات التعاون، إذ تخفِّف الصين من الشروط، كما في تقديمها قروضًا منخفضة الفوائد إلى الدول المحتاجة، بالقياس إلى أميركا.
ذلك أنه لا تفاضل جوهريًّا، في السمة الإنسانية، بين هذه الدول الثلاث، المتورِّطة في أعمال تنافي الإنسانية، بل غير المتورِّعة عن ارتكاب جرائم إنسانية، في سبيل تحقيق أهدافها التوسُّعية، أو للحفاظ على ما تعتبره وَحْدتها، أو لصَوْن مجالها الحيوي، أو حتى من أجل ما تصنّفه مصالح حيوية، تتسع، أو تضيق، بحسب طَوْق تلك الدول. وهذا ماثلٌ في ما فعلته أميركا في العراق وأفغانستان، وكذا في سكوتها عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي، في فلسطين، والمنطقة، بل في حماية دولة الاحتلال، من أنْ تطاولها القوانينُ الدولية، وقراراتُ مجلس الأمن. فضلًا عن سجِّل الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) الحافل بالوقوف إلى جانب الديكتاتوريات المتحالفة معها.

بوتين روسيا لا تزال يداه ملطَّختين بدماء السوريِّين الذين دمَّرت أسلحتُه مدنهم، وهجَّرتهم منها، وأزهقت أرواح ألوفٍ منهم

أما الصين فليست صفحتُها بيضاء نقيَّة، وقد تكفي أقليَّة الإيغور، في إقليم شينجيانغ؛ للدلالة على ذلك، حيث تقيم بكين معسكرات اعتقالٍ ضخمة لهم، بلغ عدد المحتجزين فيها، في سبتمبر/ أيلول من عام 2020، وفق دراسة أنجزها معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، ما لا يقلُّ عن مليون امرأة ورجل، وتهدف إلى مَحْو ثقافتهم الأصلية، وإنشاء جيلٍ من الإيغور منقطع، تمامًا، عن الثقافة والتقاليد والعادات والديانة واللغة الأصلية لهذه الأقليَّة. وكذا التيبت التي غزتها الصين، وألحقتها بها، تحت شعار تحريرها من "الهيمنة الغربية الإمبريالية"؛ الذريعة التي استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما يقاربُها، بعد عقود، حين قرَّر غزو أوكرانيا. 
أما بوتين روسيا فلا تزال يداه ملطَّختين بدماء السوريِّين الذين دمَّرت أسلحتُه مدنهم، وهجَّرتهم منها، وأزهقت أرواح ألوفٍ منهم، فضلًا عمَّا ارتكبه من تطهير في الشيشان، وممارسته سياسة الأرض المحروقة، حين سوّى في أواخر العام 1999 عاصمتها غروزني بالأرض. ثم في احتلاله أراضيَ أوكرانية؛ خارج القانون الدولي، وحربه التي لا يزال يديرها هناك، مُلوِّحًا بين حين وآخر، أو مُلمِّحًا إلى الخيار النووي؛ ما يعنيه ذلك من مآلاتٍ تدميرية، على مستوى العالم. 
لكنّ ثمة بُعْدًا بالغ الأهمية، متقدِّم التأثير، فعليًّا، وهو قدرة الدولة وتأثيرها، عالميًّا، وفي المنطقة؛ محلِّ التنافُس، وتتفرَّع من هذا البُعْد قدرة الدولة على القيام بأعمال سياسية خلّاقة، ومبادِرة، تصنع الأحداث، وتهيِّئ ساحة الصراع، وَفْق ما يخدم أهدافها، بالتوازي مع نجاحها في بناء تحالُفات أكثر متانةً، وفاعليَّة، كما ظهر ذلك في تأجيج أميركا العداوةَ بين الأوروبيِّين وروسيا، وقطْع الطرق أمام موسكو لتوسيع شراكتها مع دول أوروبية كبرى، في مقدّمتها ألمانيا، وفرنسا، بتوظيف قرار الرئيس الروسي بوتين غزو أوكرانيا، إذ حسمت مفاعيل هذه الحرب موقف الأوروبيين المتردِّدين أو المعوِّلين على فرص التعاون مع موسكو، حتى توسَّع حلف شمال الأطلسي (ناتو) بدول جديدة، فنلندا المشترِكة بحدود بطول 1340 كيلومترًا مع روسيا، الملتزمة "عدم الانحياز" سابقًا، التي انضمَّت، أخيراً، إلى "الناتو"، ثم السويد الساعية إلى الانضمام.

لا تزال الولايات المتحدة تملك الموقع المتقدِّم، بشكل عام، كما أظهرته، أخيرًا، الحربُ الروسية الأوكرانية، فقد بدت روسيا أكثر عزلة

مِن الناحية العالمية، لا تزال الولايات المتحدة تملك الموقع المتقدِّم، بشكل عام، كما أظهرته، أخيرًا، الحربُ الروسية الأوكرانية، فقد بدت روسيا أكثر عزلة، كما تجلَّى ذلك في الأمم المتحدة؛ إذ لم تقف مع روسيا إلا دول قليلة العدد والتأثير، كما أظهره، مثلًا لا حصرًا، التصويت في مارس/ آذار، من العام الفائت، "عانت روسيا عزلة غير مسبوقة في الأمم المتحدة؛ إثر تصويت تاريخي لصالح تحقيقٍ دولي، امتنع حتى حلفاء مقرَّبون من موسكو، مثل فنزويلا وكوبا، عن معارضته. كما أعادت تأكيد هذه الحالة إدانةُ الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، ضمَّ روسيا أربع مناطق أوكرانية، وذلك بأغلبية 143 صوتًا، واعتراض خمس دول، وامتناع 35 عن التصويت. وإلى جانب روسيا، جاءت الأصوات المعارضة فقط من (بيلاروسيا ونيكاراغوا وكوريا الشمالية وسورية)، فحتى الصين المقتربة من شراكة شاملة، وتعاون استراتيجي مع روسيا، لم تصوِّت ضد القرار، وآثرَت، مع الهند، الامتناعَ عن التصويت. 
أما في البلاد التي تشهد تجاذبات بين أميركا والصين وروسيا، فثمة تفاوت، وبعض الاختراقات الروسية، كما في سورية، من دون أن تعدم أميركا وجودًا مؤثرًا في مناطق منها، وفي مجمل تطوراتها. وفي قضية فلسطين، والصراع مع دولة الاحتلال، وجهود السلام، لا يزال النفوذ الفعلي والتاريخي غالبًا، لصالح أميركا؛ فدولة الاحتلال، وهي الطرف المقابل في الصراع، والطرف المعيق للحلول، بعيدة عن التحوُّل الاستراتيجي تُجاه الصين، أو روسيا؛ بديلةً عن أميركا، ولا تحملها خلافاتُها العابرة مع الولايات المتحدة على التفكير الجِدِّي في إعادة النظر في تحالفها الأعمق والأكثر ثباتًا مع واشنطن.   
بالطبع، لا يمكن التهوين من نفوذ الصين عالميًّا، وهي القوة الاقتصادية الأكثر والأسرع صعودًا، والأكثر حذَرًا، إذا ما قورنت بروسيا، والتي تحاول الإفادة من ثغرات السياسة الأميركية، وتناقضاتها الصارخة، بتقديم نفسها في صورة أكثر سلمية، وأقلّ توازناً بين مصالحها ومصالح الدول المحتاجة إلى المساعدة، كما تحقِّق نجاحات في أفريقيا، وكما أبرزت قدرتها في رعاية اتفاق استعادة العلاقات بين إيران والسعودية.

الكاتب أسامة عثمان
الكاتب أسامة عثمان
أسامة عثمان
كاتب فلسطيني
أسامة عثمان