أميركا ورجل القشّ الصيني

24 يناير 2023
+ الخط -

تصرّ الصين على أن الولايات المتحدة واليابان، في تنسيقهما العسكري المتزايد خلال الأسابيع الأخيرة، إنما يصارعان الوهم، وأن الولايات المتحدة في كل جهودها المحمومة لجمع الحلفاء في شرق آسيا على "التصدّي للصين" إنما تريد إيجاد عدو وهمي لا وجود له، فالصين تقول إنها تودّ التفاهم ومواصلة الشراكة مع أميركا، بينما تقول واشنطن لليابان وأستراليا والهند وكوريا الجنوبية والفيليبين إن الصين خطرٌ محدقٌ بهم جميعاً، وعليهم رفع مستوى التنسيق العسكري بينهم للتصدي لها.
زار رئيس الوزراء الياباني، كيشيدا، الولايات المتحدة أخيرا في ختام جولة للدول الصناعية السبع الكبرى التي ستستضيف مدينة هيروشيما قمتها في مايو/ أيار المقبل. لكن زيارة واشنطن لم تكن كزيارات الدول الأخرى، إذ تزامنت وتغيير اليابان، بتشجيع أميركي، عقيدتها العسكرية السلمية التي ينص عليها الدستور الذي يحظر على البلاد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خوض الحروب، فقد قرّرت طوكيو إجراء "زيادة تاريخية" في ميزانيتها العسكرية لعام 2023 بنسبة تزيد عن 30% دفعة واحدة عن ميزانيتها العسكرية للعام السابق، لتبلغ ما قيمته 51 مليار دولار، متجهة إلى جعل الإنفاق العسكري يمثل نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي لليابان بحلول عام 2027، وهي نسبة غير مسبوقة، حيث كانت نسبة هذا الإنفاق لعام 2021 مثلاً (بحسب بيانات البنك الدولي) نحو 1.1% فقط، بينما بلغت لدى الصين 1.7% خلال السنة ذاتها، ما يدلّ على تحول استراتيجي كبير في السلوك العسكري الياباني.

الهند هي الأقل استجابة للجهود الأمنية الأميركية التي أرادت الاستثمار في حالة العداء الهندي تجاه الصين، ومخاوف دلهي من تقارب باكستان مع بكين

كذلك قرّرت اليابان امتلاك صواريخ بعيدة المدى، تمنحها القدرة على "الهجوم المضاد" في مواجهة أعدائها، منها شراء صواريخ كروز أميركية من طراز "توماهوك"، وإنتاج صواريخ يابانية مضادة للسفن. وإذا كانت طوكيو تتفق مع واشنطن على أن الصين خطر استراتيجي هائل، فإن المسألة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لليابان في موضوع امتلاك الصواريخ تتمثل حالياً في التصدي لتهديد كوريا الشمالية التي أطلقت على مدار العام الفائت نحو 70 صاروخاً باليستياً، على سبيل التجربة واستعراض القوة، أحدها بعيد المدى، بينما تراوحت الصواريخ الأخرى بين قصيرة ومتوسطة المدى، فبلغ ذاك الصاروخ المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان على بعد نحو 150 كيلومتراً إلى الغرب من شواطئها الشمالية، وهي منطقةٌ بحريةُ تقع إلى الشرق من جزيرة تايوان ولا تعترف بها الصين ولا كوريا الشمالية.
اليابان، إذن، أكثر دول شرق آسيا التي تتفق مع الولايات المتحدة على وجود خطر داهم، وأكثر دول تفاهمات "كواد" استجابة للاستعداد للتصدّي لهذا الخطر المفترض، والتي تضمّ، إلى جانب الولايات المتحدة واليابان كلاً من الهند وأستراليا، وهي تفاهماتٌ نشأت عام 2004 لتوحيد جهود الإغاثة بعد موجات تسونامي التي ضربت إندونيسيا ونتج عنها مقتل نحو 230 ألف شخص، ثم تطوّرت لتصبح تحالفاً أمنياً يستهدف تشكيل كماشة تحاصر القوات البحرية الصينية في المحيطين، الهادئ والهندي، تحضيراً لاندلاع مواجهة عسكرية مع الصين.
أما الهند فهي الأقل استجابة للجهود الأمنية الأميركية التي أرادت الاستثمار في حالة العداء الهندي تجاه الصين، ومخاوف دلهي من تقارب باكستان مع بكين، إذ يبدو أن الهند تريد تحقيق نقطة توازن بين علاقاتها المتنوعة التي شملت التحالف مع واشنطن وعدم اتخاذ موقف ناقد تجاه روسيا في حربها مع أوكرانيا في الوقت نفسه، وهو أمرٌ يعكس العلاقات الهندية الجيدة مع موسكو التي هي في الوقت نفسه حليف استراتيجي للصين.

الصين التي تتمسّك بمبدأ "صين واحدة" في علاقاتها مع العالم لم تقل إنها تريد ضم تايوان بالقوة العسكرية، ولم تحشد جيوشها من أجل ذلك

بالنسبة لأستراليا، فقد وافقت على نشر سفن حربية أميركية على شواطئها الشمالية أخيرا، وكانت سابقاً قرّرت الاستغناء بسبب مخاوف أمنية عن صفقة غوّاصات تعمل بالطاقة النووية مع فرنسا، لصالح صفقة جديدة مع واشنطن ولندن (صفقة أوكوس)، كذلك تراجعت علاقاتها السياسية والاقتصادية النشطة مع الصين منذ عام 2018 بعد تدخّل واشنطن، نتيجة مخاوف أمنية أيضاً، في دلالة على عمق التنسيق العسكري بين الولايات المتحدة وأستراليا.
كل هذا النشاط العسكري لتشكيل تحالف أمني في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ، تقابله بكين بما يفيد أن الولايات المتحدة تنتهج مغالطة منطقية اسمها "رجل القش"، وتعني، بحسب "ويكيبيديا"، اتباع حججٍ تعطي انطباعاً بدحض حجّة الخصم، في حين أن ما تم دحضه فعلاً هو حجّة لم يقدّمها الخصم. بكلمات أخرى: تهاجم الولايات المتحدة أفعالاً ونياتٍ لم تعلنها الصين ولا تنوي القيام بها، كما لو أنها تبني رجلاً من القشّ يمثل الصين، ثم تهدمه وتعلن الانتصار عليه، في حين أن الصين لا علاقة لها بما تقوله الولايات المتحدة وتحاربه.
ولعل قضية تايوان أبرز مثال على تلك المغالطة الأميركية، فالصين التي تتمسّك بمبدأ "صين واحدة" في علاقاتها مع العالم لم تقل إنها تريد ضم تايوان بالقوة العسكرية، ولم تحشد جيوشها من أجل ذلك، لكن الولايات المتحدة أعلنت فجأة تضامنها مع تايوان في وجه الصين، وسافرت رئيسة مجلس نوابها السابقة، نانسي بيلوسي، إلى تايوان من أجل "التضامن"، وهكذا أقامت الولايات المتحدة رجلاً من القشّ في مسألة تايوان من دون مقدّمات وجيهة، فردّت الصين بمناورات عسكرية تحضيراً لمواجهة عسكرية ربما تكون واشنطن تعدّ العدّة لها. هذه المغالطة المنطقية هي ذاتها ما تتبعه الولايات المتحدة في حشد حلفائها ضد الصين، وغرضها الحقيقي احتواء تقدّم الصين الاقتصادي والسياسي والعسكري، والضغط عليها حتى لا تتمكّن في المستقبل القريب من تغيير قواعد النظام العالمي القائم، وتهديد أحادية القطبية الأميركية المستمرّة منذ نهاية الحرب الباردة.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.