ألف وردة إلى آني كنفاني
نستحسِن، نحن أصحاب التعاليق في الصحافة، أن نكتبَها بدواعي وقائع مستجدّةٍ أو مُستعادةٍ لسببٍ أو لآخر، أو بمناسبةٍ تسوّغها. ولكن الكتابة عن آني كنفاني (82 عاما) لا يجوز أن تكون كذلك. ولا مناسبة لهذه الكلمات سوى أن صاحبَها ضجَّ في خاطرِه سؤالٌ ملغزٌ عن سرّ الفرادة في شخص هذه المرأة، لمّا صادفَ صورَتها مع الشاعر والروائي الصديق إبراهيم نصرالله الذي زارها، قبل أيام، في منزلِها في بيروت، ومعهما ابنتها ليلى. استثنائية هذه المرأة في وفائها للشعب الفلسطيني منذ 60 عاما تجعلك تطمئنّ إلى أن النور في عدالة قضية فلسطين يستحيلُ أن يخفُت طالما في العالم آني هوفا كنفاني التي تحتاج أي كتابةٍ عن تفانيها العظيم في حمل إرث زوجها الشهيد غسّان كنفاني إلى حذاقةٍ عاليةٍ، وكذا عن انقطاعها لرعاية أطفالٍ من مخيماتٍ فلسطينيةٍ في لبنان، وهي التي لم ترحل من بيروت منذ قُتل غسّان (مع ابنة أخته لميس نجم) في الجريمة الإسرائيلية المشهودة قبل 50 عاما. تزور، بين وقتٍ وآخر، بلدَها الأصلي، الدنمارك، الذي جرى تصنيفُه غير مرّة "أسعد مكانٍ في العالم"، ولكنها تُؤثر مقامَها في لبنان الذي استحال، منذ سنواتٍ، بفعل المعلوم إياه عن الحاكمين والنافذين فيه، بلدا يتتعتَس (أظنّها مفردةً صحيحة؟) فيه مواطنوه وهم يتوسّلون الكهرباء والهواء النظيف والراتب الكافي. لا تلقى في أحاديث هذه السيدة لدورياتٍ وتلفزاتٍ عربيةٍ تبرُّما فيها من لبنان الراهن، أو الذي توالت فيه حروبٌ بلا عددٍ في كل سنوات سكناها فيه.
الزمن الفلسطيني إبّان نضال غسّان الذي تزوجته آني في 1961 (في مثل هذا الشهر، نوفمبر/ تشرين الثاني)، ولمّا تملّكها غضبٌ شديد، عندما عرفت في أول لقاءٍ لها بفلسطينيين قبل ذلك العام بعام، في يوغسلافيا، لأن 30 عاما كانت قد مرّت على مأساة فلسطين ولم تكن تعرف عنها (قالت عن هذا في مقابلةٍ معها أجراها الراحل سماح إدريس، ونشرتها مجلة الآداب)، أقول إن ذلك الزمن الفلسطيني، ثم الذي تلاه في غضون إيقاع ثوري مضى، ليسا الزمن الفلسطيني الراهن، حيث الركاكة التي نعرف، ولكنّ آني لا تحفل إلا بالجوهريّ في قضية الأرض وشعبها وناسها، بوصفها قضية حقٍّ وعدالة. ترى دورا في وُسعها أن تخدم به قضية فلسطين التي تعتنقها، عندما ترى أطفالا في مخيمات فلسطينية في لبنان يحتاجون الدعم والرعاية والحضانة، فكانت "مؤسّسة غسّان كنفاني الثقافية" التي تنيط بنفسها هذا العمل (وغيرَه) منذ أنشأتها في 1974 هذه المرأة، الحانيةُ المناضلة، الصبور، المحتشدةُ بأملٍ وتفاؤلٍ تُغبَط عليهما. بحماس مخلصين، بعضُهم متطوّعون، تستمرّ المؤسّسة التي تتموّل من دعم أصدقاء لغسّان ومحبّين له في غير بلد، في عملها الاجتماعي، فيستفيد منها نحو 1500 طفل سنويا، وقد صار من أنشطة مركزيْن لها رعاية أطفالٍ من ذوي الاحتياجات الخاصة. وتُواصل عملَها الثقافي بإصدار كتبٍ للأطفال، وغسّان كتبَ للأطفال قصصا غير قليلة، وكان يقول إنهم المستقبل، وكان يرسم لهم ويفرح بهم. تصادف أنه أعطى طفلته ليلى قطعة شوكولاتة، قبل أن يستقلّ سيارته ومعه ابنة أخته، وكانت في السابعة عشر عاما، فاستُشهدا لمّا انفجرت بهما السيارة أمام منزلِه في بيروت، بتدبيرٍ إسرائيلي. وكان الأول في قائمة غولدا مائير من المثقفين الفلسطينيين الذين "قرّرت" اغتيالَهم. ومن جميل ما صنعته المؤسّسة، أخيرا، أنها خصّصت أنشطةً طوال عام، منذ منتصف الصيف الماضي إلى منتصف المقبل، عن غسّان وأدبه وإرثه الإبداعي والثقافي والسياسي والوطني، بمناسبة ذكراه الخمسين.
ابنة نجّار دنماركي قاوم الاحتلال النازي في بلده، عملت في تعليم الأطفال هناك، تزور لبنان وسورية، وتتعرّف إلى شابٍّ اسمه غسّان كنفاني، ثم تحبّه ويحبّها، يُخبرها أنه بلا وطن، وبلا مال، وبلا جواز سفر، ومريض بالسكري، ومنخرطٌ في السياسة، ومستهدَف. يتزوّجان 11 عاما، وينجبان فايز وليلى. يكتب ويرسم ويتحدّث بالإنكليزية للعالم عمّن اختاروا أن يكونوا أعداء للفلسطينيين. تكتب إليه آني في رسالةٍ، عنوانها "إلى غسّان، زوجي وأستاذي"، تنشرُها في 1992 مجلة الآداب البيروتية، "لقد أعطيتَني ما يقرب من إحدى عشرة سنة هي أجمل ما في حياتي وأشدّها أهمية، وهي سنواتٌ أعبُّ منها العزيمة من أجل مواصلة السنوات الصعبة القادمة". وتختم "... يوما ما، سوف تصبح فلسطين ذلك العالم الذي أردتَ أن تهديه إلى لميس وفايز وليلى وجميع الأطفال الذين لا عالم لهم".
بعد ألف وردةٍ ووردةٍ إليها، يبقى السؤال الذي أعلاه: ما سرّ الفرادة في شخص هذه المرأة الاستثنائية في وفائها لفلسطين؟ لا أعرف.