أصواتٌ حيّة في رام الله

04 سبتمبر 2018
+ الخط -
لأنه مهرجانٌ للشعر، واستُمِع في أمسياته وجلساته لقصائد عديدة لشعراء عرب وأجانب، فلأهل الأدب ونقّاده وذوّاقته أن يروا ما يروْن في سويّة الشعر الذي كان فيه. ولأنه انتظم في ضيافةٍ فلسطينيةٍ في رام الله، فلمن أراد أن يخوض، باللتّ والعجن إيّاهما، أو بالنقاش المتزن والهادئ، في شأن ما إذا كان ثمّة شبهاتٌ تطبيعيةٌ في قدوم الشعراء العرب المستضافين إلى فلسطين، لمن أراد ذلك فله أن يفعل. ولأن النمائم والمحكيّات والقيل والقال من هوايات كثيرين في الأوساط الثقافية العربية، والفلسطينيون في مقدّمتهم، فلهؤلاء أن يتصيّدوا ما شاءوا من أخطاء، ومن وقائع وحوادث تخصّ هذا وذاك من المدعوين للمشاركة في إلقاء القصائد. ولأن هناك من يحترفون الكراهيّة، ولا يُتقنون سواها، ولهم خصوماتُهم التي بلا أول ولا آخر، عن حقّ وغير حقّ، مع هذه الوزارة وتلك المؤسسة الفلسطينيتين، ومع هذا المسؤول وذاك فيهما، فلهؤلاء أن يُثرثروا بما يشاءون من كلامٍ عن المهرجان المتحدّث عنه هنا، والذي اختُتمت دورته الثانية قبل أيام، في رام الله، ونظمّته مؤسسة محمود درويش وبلدية رام الله، بدعمٍ من وزارة الثقافة الفلسطينية، وبالتنسيق مع مهرجان أصوات حية، الفرنسي المتوسطي. وشارك فيه 28 شاعرا من ألمانيا والبرتغال وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وتشيلي وغيرها، والشاعران السوريان فرج بيرقدار ومروان علي، وشعراء من كل فلسطين، ومن الشتات، منهم غياث المدهون وعلي مواسي. 

ليس لأي شيءٍ مما سبق أيُّ أهمية. الجوهري في هذه التظاهرة الثقافية أنها كانت مناسبةً جديدةً لإطلالةٍ فلسطينيةٍ على مقطعٍ من شعريّات العالم، ولإطلالةٍ من حساسياتٍ ثقافيةٍ وجماليةٍ ومعرفيةٍ متنوّعةٍ من جغرافياتٍ متعدّدةٍ من العالم على مقطعٍ من فلسطين. فلسطين المحتلة، كما ينبغي أن يعرف كل من يدبّ على الأرض، فلسطين التي يريد المحتلّ الغازي أن يبقى أهلوها معزولين عن العالم، أن يبقوا في صورة المعادين للحياة، ويمجّدون القتلى منهم. ومؤكّدٌ أن الافتراءات الإسرائيلية السمجة عن الفلسطينيين لم تجد يوما من يشتريها، ومؤكّدٌ أكثر أن الفلسطينيين، بالسرديّة البالغة الرقي في مضمونها المُحتفي بالمشترك الإنساني، والتي بسطوها بنجاح، أتقنوا حضورهم الأخلاقي في العالم. وساهم منهم مفكّرون وشعراء وقصّاصون وروائيون ومسرحيون ومغنّون ورواة ومؤرخون بتعزيز صورة الفلسطيني، الخلاق، والشغوف بالحياة، والمعادي لكل عنصرية وطغيان، والمتمسّك بمقاومة المحتلين والغزاة. وكما أن مهرجانا للرقص العالمي ينتظم في رام الله، دوريا منذ سنوات، وتُشارك فرقٌ أجنبيةٌ في عروضه إلى جانب عدّة فرق فلسطينية، يُلفت إلى هذه البديهية المؤكّدة، فإن مهرجاناتٍ وتظاهراتٍ ومواسم أخرى تنشط في تنظيمها مؤسساتٌ فلسطينية، أهليةٌ ورسميةٌ، متنوّعة المشاغل، الفنيّة والفلكلوريّة والثقافيّة، تعمل في هذا المنحى البالغ الجوهرية في معركةٍ كفاحيةٍ فلسطينيةٍ، عديدة الأبعاد والمستويات والصيغ والمهمّات، سيما أن العدو لا يمسّه الملل، وهو يواصل استهدافاته الفلسطينيين في ساحات الفنون ومناسباتِها ومواسمها العالمية، في مهرجانات السينما والفنون الأدائية والإيقاعية والمشهدية في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا.
هكذا يحسُنُ النظر إلى مهرجان الشعر الذي شاركت فيه أصوات حية في رام الله، وإلى كل الأنشطة والتظاهرات الفنية والثقافية التي يستضيفها الفلسطينيون في أي مساحةٍ في وطنهم، ويستقبلون فيهم محبّين لهم، مناصرين لقضيتهم ولكفاحِهم، من كل الأرض، شعراء وراقصين وسينمائيين ومغنّين وعازفين. وجاء في مطرحِه تماما حديث وزير الثقافة الفلسطيني، إيهاب بسيسو، في افتتاح هذا المهرجان، حسن السمعة، وأمام الضيوف والمدعوّين والحضور، عن عراقيل غير هيّنة يضعها الاحتلال أمام مسيرة الثقافة الفلسطينية، والتي تتّخذ، بحسب وصفه المحقّ، عدّة أنماطٍ من البشاعة، منها منع مبدعين ومثقفين فلسطينيين من السفر، والحصار، وإغلاق مؤسّسات الثقافية ومداهمتها، ومنها القصف، كالذي جرى في التاسع من أغسطس/ آب، حين استهدفت طائرات الاحتلال مبنى مؤسّسة سعيد المسحال للثقافة والعلوم في غزّة، وقبلها مبنى المكتبة الوطنية قيد الإنشاء في غزّة، وقرية الحِرف والفنون. .. سمعت أصواتٌ حيةٌ هذا، واستمعت إلى أشعار بعضها، وإلى إيقاعاتٍ فلسطينيةٍ ينكتب بها الشعر، وتعبّر عن الفرح، وعن ألمٍ مقيم أيضأ.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.