أزمة الجنيه وتصوّرات السلطة عن أموال المصريين

12 يناير 2023
+ الخط -

جرى، قبل أيام، تعويمٌ لا ندري ترتيبه في سلسلة التعويمات والسقوط التي حلّت بالجنيه المصري خلال السنوات العشر الماضية. العجيب في الأمر أن السلطة تخضع، بهذه السهولة وبمقابل ضعيف، لشروط المؤسسات المالية الدولية القاسية على المصريين الذين تحمّلوا ما تنوء عن حمله الجبال، وما لم يتحمّله شعب آخر خلال هذه المدة من تدهور في الأجور الحقيقية ووقوع تحت خطوط الفقر والجوع من دون حتى حرية على المستوى السياسي.

الأغرب أن اعتقادا يسود لدى السلطة في مصر أن الناس تمتلك سيولةً ماليةً كبيرة خارج النظام المصرفي، لا يُعرف إلى ماذا يستند مثل هذا الاعتقاد. عبر السنوات العشر الماضية، عام الجنيه مرّات، فغرق المصريون في بحر من هموم الفقر والتضخّم وكيفية مواجهتهما في ظل اقتصاد وسياساتٍ لا تنتج إلا مزيدا منهما. وفي كل مرة، يوهم النظام الناس بأن هذا تعويم كلّي وأخير، ليصطدموا بأن بحر الغدر الخاص بعملة اقتصادهم شبه الريعي لا قاع معلوم له.

تعتقد السلطة دوما أن المصريين يخبئون المال بعيدا عنها وعن النظام المصرفي، أو تحت البلاطة بالتعبير المصري الشهير. ولا يُعرف سببٌ منطقي لهذا الاعتقاد، فإذا سألت السلطة محافظ البنك المركزي أو أيا من موظفيه الكبار يمكنه في ثوان معدودة أن يقول لهم كم يبلغ حجم السيولة النقدية في السوق، وفقا للفئات المختلفة للعملة بدءا من الخمسة قروش حتى المائتي جنيه، فمن أين إذاً يأتي هذا الاعتقاد؟

معدّلات ادّخار المصريين ضمن الأدنى عالميا، بل إنها انهارت بشدّة في السنوات الثماني الماضية، من 7,9% من الناتج القومي الإجمالي إلى 3,1% فقط في عام 2021، وهي معدّلات شديدة التدهور، ولا تفي بمتطلبات تنمية حقيقية، تقتضي معدّلات في حدود 25% على الأقل. وليس هذا الانحدار في معدلات الادخار لأن المصريين مسرفون بطبيعة الحال، بل لأن دخول المصريين تنمو بشكل أبطأ من السلحفاة، بينما تزداد مصروفاتهم بسرعة الصوت، بسبب التضخّم والسياسات الكلية الخاطئة التي لا دخل للغالبية العظمى من المصريين فيها. وبناء على هذه الاعتقادات، تطرح السلطة عند كل أزمة عملة سلسلةً من الوسائل المالية، تقول إنها للمحافظة على ودائع المدّخرين وأموالهم من ناحية. ومن الناحية الأهم، والتي يروّجها الإعلام دائما تهدف لضخّ أموال جديدة من خارج النظام المصرفي.

تمت مضاعفة كل الرسوم المفروضة لاستخراج كل التراخيص والأوراق الرسمية عدّة مرات في وقت قياسي

تثير كل أزمة للجنيه أزمة ثقة أكبر في النظام المصرفي، ومن ثم النظام السياسي برمته، فقد استنفد النظام تقريبا معظم وسائل جذب الأموال من خارج النظام المصرفي ومن داخله، لتمويل مشاريع وهمية؛ فبالنسبة للمصريين في الداخل، طرحت شهادات ادّخار بفوائد خيالية منذ العام 2014، حيث طرحت شهادات بفوائد 14%، ثم طرحت شهادات قناة السويس بفائدة أعلى، ليندم أصحاب الشهادات السابقة عليها، ثم ظهرت شهادات بفوائد 18% بعد تعويم العام 2016. ولم يعوّض ذلك التضخم الذي ارتفعت مؤشّراته بشكل غير مسبوق منذ عقود. وأخيرا، طرح النظام المصرفي شهادات بفوائد 25%، بعد محاولات فاشلة لترويج مبادرات تدعو المصريين إلى إيداع الذهب في البنوك لدعم الاقتصاد، بالإضافة إلى عشرات المبادرات والصناديق الخاصة بالتبرّعات، سواء للرئاسة مباشرة أو للمستشفيات وغيرها. وسنّت قوانين روّجت قدرتها على تحصيل مئات المليارات، مثل قانون مخالفات البناء وقوانين الشهر العقاري والتوثيق. وجرت محاولات تطبيقها بالقوة، وفشلت بشكل كبير، سواء في تحقيق الأهداف الجبائية المبالغ فيها أو حتى الأهداف غير الجبائية، وبعضها منطقي ومطلوب، وإنْ بطرقٍ أخرى.

بالتوازي مع ذلك، تمت مضاعفة كل الرسوم المفروضة لاستخراج كل التراخيص والأوراق الرسمية عدة مرات في وقت قياسي، وأصبحت كل زيادة في هذه الرسوم مناسبةً لمكلمة وشكايات على مواقع التواصل الاجتماعي. وزادت حصيلة كل الضرائب التي يدفعها المصريون قرابة أربعة أضعاف في هذه الفترة. وبالتوازي مع ذلك، غابت العدالة الضريبية؛ فالكبار يحصلون على الإعفاءات بالجملة مع كل تعديل لقوانين الاستثمار، ويتهرّبون من الضرائب بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، بل ويحصلون على دعم صادرات، بينما يدفع المواطنون الضرائب قسرا، لأنها تقتطع من المنبع، سواء عند الاستهلاك أو عند الحصول على الأجر.

وبالنسبة للمصريين في الخارج، طرحت آلاف القطع من الأراضي، وبيعت لهم بأسعار خيالية. وكذلك طرحت شهادات دولارية بفائدة مرتفعة جدا منذ عام 2016، وهلّل بها المبشّرون بقدرتها على حل الأزمة الدولارية حينها كثيرا. ولكن لا أحد يعلم كم من الدولارات استطاعت هذه الأدوات المالية جذبها، لكن المعلوم أنها لم تحل شيئا.

تعتقد السلطة دوماً أن المصريين يخبئون المال بعيداً عنها وعن النظام المصرفي، أو تحت البلاطة بالتعبير المصري الشهير

طُرحت كذلك مبادرة سيارات المصريين في الخارج بطريقة احتيالية محترفة، فبدلا من إلغاء الجمارك وفقا لاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي جرى تأجيل تنفيذها عدة مرات ثم حملت رسوما ضريبية ودمغات وغيرها من رسوم أضيفت للجمارك لتوضع في وديعة تسترد بعد خمس سنوات تأخذ الحكومة فوائدها بينما يأخذ المصريون وعدا بردها يتمنون ألا يكون مثل وعود الحكومة والبنوك اللبنانية، وجرى تضخيم هذه المبادرة باعتبارها المنقذ للجنيه من التعويم والغرق مرة أخرى.

مشكلة مثل هذه السياسات أنها لا تدرك أن الدائرة الاقتصادية شبه مغلقة تماما، وأنه لا يوجد شيء خارج نطاق السوق ونظامه، حتى وإن كان خارج نطاق القانون، وأنه حتى القطاع الرسمي تدخل أمواله وتخرج وتتحرّك داخل الدائرة الاقتصادية بطرق مختلفة. ويقدّر الإحصائيون والاقتصاديون حجمه بمعادلات رياضية بدرجات دقّة عالية.

المشكلة الأكبر أن مثل هذه السياسات التي تعتمد على وسائل مالية لحل أزمات اقتصادية هيكلية كبيرة تتعلق بطبيعة النظام الاقتصادي وتوجهاته وهياكله الإنتاجية وقدرته على إيجاد الوظائف، والحد من الفقر وطبيعة علاقات العمل فيه ووضعه في التقسيم الدولي الجديد للعمل وتموضعه داخل النظام النيوليبرالي السائد، وقد تكون أكبر من النظام ذاته، وعابرة للنظم، إنما تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى إغلاق مصانع ومشروعات قائمة عديدة، ذلك أن رأس المال في بلداننا، كما في العالم كله، شديد الجبن. ويبحث عن الربح السريع بطبعه، وبالتالي، فإن السوق الذي يعطي فوائد تصل إلى 25% يقول، بشكل مباشر، للمصنّعين والتجار أغلقوا هذه الأنشطة التي لن تجلب لكم أرباحا كهذه مطلقا، ومرحبا بكم في بنوك الحظ في نظام قد يجيد جمع المال، ولكنه أفشل ما يكون في إدارته وتوجيهه.