مصر ومحافظوها الجُدد وحكمُها المحلّي

02 اغسطس 2024

(محمد عبلة)

+ الخط -

في الأسابيع القليلة الماضية، وبعد أيام من تعيين المحافظين الجُدد للمحافظات المصرية الـ27، شهدنا جدلاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي بشأن بعض السلوكات التي أصبحت مُعتادَةً، مع الأسف، من مشادّات مع الأطقم الطبية أو حتّى جري وراء مواطنة تحمل الخبز إلى مُستحقِّيه في مقابل أجر، من دون أن يتوقّف كثيرون عند هذه الظواهر وأسبابها، سوى محاولة الظهور الإعلامي للمحافظ أو لنوابه في مظهر النشطاء المُتفانين في عملهم، وهي نظرة قاصرة بالتأكيد.

مع كلّ حركة تغيير للمحافظين، أو من يُفترَض بهم نظرياً إدارة العمل المحلّي في المحافظات المصرية تنطلق صفحات مواقع التواصل والجرائد بتحليل ما يريده المواطنون من محافظيهم، فيما يكون الهمّ الأكبر لغالبية المحافظين هو كيفية إرضاء السلطة السياسية المركزية، ممثّلة بشخص الرئيس عبد الفتاح السيسي، حتّى يستمرّوا في أماكنهم أطول فترة ممكنة. لا ينفي هذا بعضاً من الرغبة في النشاط المحلّي وإرضاءَ فئةٍ ما من المواطنين في تلك الفترة القصيرة من دون أن يصل الأمر إلى إشادة حقيقية به، حتّى لا يُتصوَّر منه خطر الشعبية التي تريدها الأنظمة السلطوية حكراً على "الرئيس القائد". تراوح مطالب المواطنين المتناثرة في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي التعليق على أخبار الصحف بمواقعها وصفحاتها، بين تحسين المستشفيات والمدارس والطرق والمواصلات، وبقية الخدمات العامة، إلى تحسين أداء وسلوك الموظّفين ومحاربة الرشوة والفساد في المدن والقرى والمجالس المحلّية التي تُسيّرها، وصولاً إلى تسهيلات أكبر لحياة المواطنين اليومية، بما يعنيه هذا من معايشة هموم المواطنين، ومحاولة تخفيفها قدر الإمكان.

سنوات طاولت الانتقاداتُ نظامَ الإدارة المحلّية، وطال انتظار المواطنين والحالمين باللامركزية وبالحكم المحلّي وبالمشاركة السياسية الفعّالة للشباب في الحكم، وبالذات بعد يناير/ كانون الثاني 2011. لكن، كانت ردّات فعل النظام الحالي انتقامية من تلك الطموحات كلّها، فبعدما تراجع قليلاً عددُ المحافظين ذوي الخلفية العسكرية، في أول تشكيل لمجلس المحافظين بعد الثورة في عهد الرئيس السابق محمّد مرسي، سرعان ما تزايدت أعداد هؤلاء، لتعود إلى الوضع السابق للثورة، فوصل قرابة 21 محافظاً من خلفية عسكرية وأمنية من بين 27، وفي آخر تشكيل تراجع هذا الرقم قليلاً لكنّه لم يَخلُ من 15 لواءً أو فريقاً، الأمر الذي يجعل من مقولة عسكرة الإدارة المحلّية متحقّقة إلى حدّ بعيد. ولا عجب، فالرئيس نفسه يشعر بأنّ المدنيين غير صالحين للحكم المحلّي أو غير المحلّي، وهو الذي بدا مستاءً من بعض المحافظين لعدم قدرتهم على تطبيق بعض القرارات المُتعلّقة بمخالفات البناء، فهدّدهم بالإقالة، وإنزال الجيش للتنفيذ، رغم أنّه اختارهم على عينه، بل ذهب الرجل إلى المطالبة بتعيين ضابط لكلّ قريةٍ بديلاً من نظام عُمَد القرى، المعمول به منذ أكثر من مائتي عام تقريباً، ليضمن تنفيذ مشروعاته بالسرعة المطلوبة، ناهيك عن الولاء، الذي هو محلّ شكّ في كلّ مدني.

بعدما تراجع قليلاً عددُ المحافظين ذوي الخلفية العسكرية، في أول تشكيل لمجلس المحافظين بعد الثورة، سرعان ما تزايدت أعداد هؤلاء، لتعود إلى الوضع السابق للثورة

وبالطبع، هناك استراتيجيات شبه محفوظة للمحافظين للظهور بمظهر الجادّين، منها أنّه يقوم أحدهم بالتنكّر في زيّ مريضٍ أو في زيّ راكب تاكسي أو زبون عند بائع خضروات، وتأخذ الصفحات الوطنية هذه القصّة هنا وهناك لتُغيّر اسم المحافظة فقط، وتُتَداول في نطاق واسع لإحداث صدى شعبوي مفاده أنّ السيد الرئيس يختار محافظين يعملون بكلّ جِدّية لأجل المواطن وراحته، حتّى أنّ أحدهم فوجئ بمواطن يريد منه تزويجه، وأنّه لا يملك دخلاً شهرياً سوى ألف جنيهٍ، فطلب منه القدوم إلى مكتبه، لتحتفي الصفحات بهذا الفعل، وكأنّه حلَّ مشكلات الشباب جميعاً. قد تكون هذه قناعات لدى هؤلاء ومساعديهم ونوابهم، لكنّ مستوى التفكير هذا يحتاج لإعادة نظر، لأنه يضع المحافظ نفسه في كثير من الأحيان في موضع حرج، كما حدث في موقف المحافظ مع طبيبة سوهاج، والذي اقتضى اعتذارَ رئيس الوزراء نفسه، بعد موجة نقد حادّة في مواقع التواصل، ومن نقابة الأطبّاء.

ولكي لا نحمّل المحافظين أنفسهم أعباءً تفوق قدراتهم، فإنّ النظام نفسه، ورغم بعض التطوّرات الدستورية في 2012 و2014، لا يزال بعيداً البعد كلّه عن اللامركزية والحوكمة، وعن الحكم المحلّي، ناهيك عن الحكم الرشيد، وكلّها، إذا افترضنا حسن النيّة، مفاهيم لا يمكن تشغيلها في إطار نظام عسكري مهما كانت المُدخلات، فالنظام الذي ينهي المشروع الذي يحتاج خمس سنوات في سنتين أو سنة، يبدو جيّداً، لكنّه غير ذلك عندما نكتشف عيوباً كارثية في عديد من مشروعات البنية التحتية التي نُفّذت في عام واحد.

نريد مدنياً صعد من القاع من ملح هذه الأرض يعرف مشكلات المستشفيات والمواصلات والمباني والطرق، ولديه القدرة على الاستماع لمن يعرفون أكثر في كلّ قطاع

لا ننفي أهمية المتابعة والتفتيش والرقابة اليومية على الأسواق والمشروعات في نطاق المحافظة ومدنها وقراها، لكن ممارستها موسمياً، أو مرّة واحدة في بداية المدّة، أو في فترات متباعدة، ومن دون صلاحيات كبيرة تقابلها رقابة أعلى قادرة على محاسبة المحافظ ذاته، هذا النمط يُفقد السلوك معناه ويجعل نهايته متوقّعة، مهما حاولنا الانبهار به في كلّ مرة.

فإذا كان هذا قدرنا فعلى الأقلّ نحن مواطنون لا نريد محافظين غرباء، وكأنّهم يكتشفون للمرّة الأولى أن سائقي سيّارات الأجرة أو "الميكروباص" لا يلتزمون بالتعرفة التي تحدّدها المحافظة، فيحتاجون التخفّي للإمساك بسائق هنا وهناك، لأنّ المحافظ الجديد، وبالذات صاحب الخلفية العسكرية برتبة لواء فما فوق، غالباً لم يشعر بالمعاناة في حياته من مشكلة العشوائية والقمامة، فهو عادةً يسكن حيّاً راقياً، ولا المواصلات، فمنذ تخرّجه من الكلّية الحربية أو الشرطة لديه سيّارات وسائقون في خدمته، أو لديه سيّارته الخاصّة، وبالتالي هو لا يعرف أنّ سيّارات الأجرة كافّة، العاملة بين القاهرة والمحافظات الأخرى، لا تعمل ولم تعمل بالتعرفة الرسمية منذ عقود تقريباً، ولا يعرف أنّ هناك ما يشبه المافيا تدير تلك المواقف (وأخرى تدير القمامة، وآخرين في الصحّة والإسكان) في غير صالح المواطن، نريد مدنياً صعد من القاع من ملح هذه الأرض يعرف مشكلات المستشفيات والمواصلات والمباني والطرق، ولديه القدرة على الاستماع لمن يعرفون أكثر في كلّ قطاع، لا لشخص يعتقد أنّ كلّ شيء يُحلّ بالأوامر الصارمة والصراخ فقط.

 المحافظ والمسؤول الذكي المطلوب هو الذي يتمدّد في السياق القانوني والدستوري والإداري المتاح، ليملأ كلّ فراغ لمصلحة المواطن

المحافظ والمسؤول الذكي المطلوب هو الذي يتمدّد في السياق القانوني والدستوري والإداري المتاح، ليملأ كلّ فراغ لمصلحة المواطن، لا لمصلحة السلطة فقط، بالجبايات هنا وهناك، ولطالما شهدت مصر في عهد حسني مبارك أسماءَ عدّة محافظين لن تنساهم المحافظات التي عملوا فيها، سواء لإنجازاتهم في قطاعات معيّنة أو لقدرتهم على الضبط والربط في مواجهة تمدّد الظواهر العشوائية، من غير عَسف في استعمال السلطة، هو الذي يعرف حدود التداخل بين الوزارات المختلفة والمديريات التابعة لها، وإدارته المحلّية، ويُوسّع حدود التعاون والمتابعة والرقابة، ويقتنص أدوات لها لصالح الجميع. هو الذي يحيط نفسه بشباب منغمسين في واقع محافظته، وفي العمل الأهلي، وفي النخب العلمية المحلّية ذات التجربة للتفكير في حلول جماعية للمشكلات، بالمشاركة لا بالفرض.

نريد محافظاً عندما يرى مشكلة ازدحام يُفكّر مباشرة في كيف تَحلّ المدن في العالم هذه المشكلة، فيطير شرقاً وغرباً لعقد شراكات مع مُصنّعي الباصات، ويخترع نظاماً للنقل العام، وهيئة له، كما في محافظات مصرية أخرى، وكما في مدن العالم، لا أن يتعاقد بالأمر المباشر مع شركة خاصّة هنا وهناك، فتفرض شروطها عليه وعلى المواطنين محتكرةً جزءاً من السوق، فيسخط الجميع في النهاية. نريده أن يتخيّل نفسه مُنتخباً، وفي منافسة مع المحافظات الأخرى لتحسين أحوال الناس، وليس تحسين مداخيل الدولة فقط، أو قضاء مدّته بهدوء تامّ. وبغير ذلك، مع الأسف، ستظلّ مدننا وقرانا غارقةً في العشوائية والتردّي.

عمر سمير
عمر سمير
عمر سمير
كاتب وباحث مصري
عمر سمير