أرامل في مواجهة الوحدة

14 مارس 2022

(نجوى سراع)

+ الخط -

يقال في سياق تخفيف أحزان المكلوم بفقدان عزيز إنّ كلّ شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر إلّا الحزن، يبدأ كبيراً ثم يتضاءل مع مرور الزمن. وهذه حقيقةٌ لا يمكن إنكارها حين إعمال العقل والمنطق وتحييد المشاعر والتعامل بواقعية مع نوائب الزمن. غير أنّ قلة من الناس تتمكّن من التحكّم في انفعالاتها في مواجهة المصائب الكبرى، فتتفاوت ردود أفعالهم من فرد إلى آخر، بحسب طبيعة الشخصية ومدى قدرتها على الاحتمال ومواجهة الأحزان.
يسرُد رجل أربعيني تجربته في الترمّل، بعدما فقد زوجته قبل عامين، إثر إصابتها بمرض السرطان، فيقول إنّ الحزن لا يغادره لحظة، مهما حاول المضي في حياته التي توقفت لحظة إعلان الوفاة، يفتقدها في كلّ التفاصيل، ويشعر بفراغ كبير، يعتصره الألم على أولاده الذين حُرموا وجود أمهم، ويحاول أقصى جهده، لتعويضهم شيئاً من حنانها، لكنّه يشعر بالعجز وقلة الحيلة، وهو الذي كان منغمساً في العمل، مطمئناً إلى قدرة زوجته الراحلة على متابعة شؤون البيت وتفاصيل حياة الأولاد.
وجد نفسه فجأة في مواجهة مسؤولياتٍ لم يعهدها في حياته الزوجية، وهو غير واثقٍ من قدرته على إتقان مهام زوجته الراحلة. لم يفكّر لحظة في الزواج ثانية، رغم إلحاح الأهل والأصدقاء، وذلك من باب الوفاء لسيدةٍ بذلت عمرها في الاعتناء بالعائلة، وهو غير مستعدٍ لكسر أولاده بإحضار بديل لأمهم، لأنّه يرى، في ذلك، خيانة وقسوة وأنانية وظلماً كبيراً ويتماً مضاعفاً للصغار المفجوعين بغياب أمهم التي لن يعوّضها أحد. وهو مصمم، على الرغم من كلّ شيء، على تكريس حياته من أجلهم، حتى إنّه تعلم مهارة الطبخ، وهو الذي لم يدخل المطبخ من قبل، في محاولة إسعادهم وحمايتهم قدر الإمكان من أي إحساس بالقهر والحرمان. وقد يرى بعضهم أنّ مثل هذا الرجل نادر، غير أنّ في ذلك تجنّياً كبيراً، لأنّ هناك رجالاً نبلاء كثيرين ممن يتمتعون بخصال الأمومة العظيمة، مثل إنكار الذات والقدرة على التضحية والعطاء بلا حدود.
ثمّة سيدة خمسينية ترملت على نحو مفاجئ، إثر إصابة زوجها بجلطة قلبية، أودت بحياته، مخلفاً ولداً وبنتاً في سن المراهقة. وبعد تجاوز الصدمة في مراحلها الأربع، من إنكار وغضب وحزن وقبول، وجدت نفسها مجبرةً على ادّعاء القوة والثبات والصمود والتحلي بالصبر، فكتمت مشاعر الألم في سبيل دعم ولديها في مصابهم الكبير. لم يكن لديها خيار آخر سوى تشجيعهما على تجاوز أحزانهما والالتحاق بمدرستهما ومتابعة حياتهما وسيلةً وحيدة للتصدّي للمأساة التي حلّت بالعائلة، ما أثار إعجاب المحيطين بها، وتقديرهم وتعاطفهم، وهم يواجهون امرأة قوية مسؤولة صابرة مؤمنة، موقنة بأهمية رسالتها في الحياة، على الرغم من الأحزان الكثيرة في روحها، تأوي، كل ليلة، إلى غرفتها، تغرق في بكاء مكتوم، حزناً على رجلها السند والشريك والرفيق والأب الحنون الذي أغدق على أولاده حناناً مفرطاً، لن يتذوّقوا حلاوته من جديد.
أرملة ستينية يعرف الجميع مدى تعلقها بزوجها الذي كان صديقها الوحيد، يعمل أولادها الأربعة خارج البلاد، لم تتمكّن، رغم مرور الزمن وإحاطة الأهل ويقينها بأنّ الموت حقّ، من تجاوز تلك اللحظة الرهيبة، حين أدركت أنّ حبيبها رحل إلى الأبد. غرقت في كآبة اختيارية، وحرّمت على نفسها أي لحظة فرح، وصدّت أي محاولة من الصديقات للخروج من الحالة التي تمكّنت منها وجعلتها أسيرة الذكريات، غير معنية بالقادم من الأيام، تكتفي بعدها بانتظار الموت، علّه يجمعه بها من جديد. لا يمكن أيّاً كان توجيه اللوم إليها، فتلك مشاعرها الحقيقية، وهكذا فقط تستطيع التعبير عنها.
ويظل التنظير عن بعد في هذا الشأن ضرباً من الهذر الذي لا يُجدي نفعاً، فالموت، رغم قبحه وقسوته، وعد ومصير وحقيقة يومية ماثلة أمامنا، لا نملك حيالها سوى التسليم بالعجز المطلق كي لا نُصاب بالجنون.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.