أدونيس في السعودية
ليكُن صحيحا قول من قالوا إنها من العلاقات العامة دعوةُ مؤسّسةٍ ثقافيةٍ سعودية أدونيس إلى زيارة المملكة. ليس هذا مهمّا، الأهم أنه حقَّ للشاعر الشهير أن يزور هذا البلد العربي منذ عقود، وليس في الثالثة والتسعين من عمره. وقد عبّر هو نفسُه مرّةً عن رغبته بزيارةٍ كهذه، ليتعرّف على الأماكن التي سار فيها الصحابة الأوائل، كما قال في محاورة صحافية معه في 2009، وهو الذي يتردّد على دول الخليج الأخرى، ويُستضاف في تظاهراتٍ ثقافيةٍ فيها (يكاد يكون مقيما في الإمارات من كثرة وجوده فيها). ولئن جاءت الدعوة المتأخّرة جدا في زمنٍ سعوديٍّ جديد، تنتظم فيه مهرجاناتٌ للسينما في غير مدينةٍ في المملكة، وتُصوَّر فيها الفنانات المدعوّات بفساتينهن الكاشفة، ولا تتوقّف حفلات الغناء الساهرة، فإن هذا يجيزُ القول إن إيقاعا آخرَ مغايِرا لما كان عليه البلد لزمَ أن يستجدَّ ليُرفع الحظر (غير المُعلن) عن استقبال أدونيس، بل وليحظى بمثل الترحيب الكبير الذي شاهدْنا. وهذا هو عام الشعر العربي (تسمية قرّرها مجلس الوزراء) في السعودية، ييسّر المناسبة لأكاديمية الشعر العربي (مقرّها الطائف، تأسّست في 2016)، بدعمٍ من هيئة الأدب والنشر والترجمة، لاستضافة صاحب "المطابقات والأوائل"، بل والاحتفاء به إلى حدٍّ جعله يقول إنه لا يعرف كيف يصف سعادَته الكبيرة بالزيارة. وإذ عمَد غيرُ قليلين في المملكة (وخارجها) إلى نعت الضيف الكبير بما لا يجوزُ من ألفاظ، فإن مثقّفين سعوديين كثيرين أشهروا غبطتَهم به بينهم، ورأوا في ذلك دلالةً على أن "الحراك الثقافي" في المملكة بات أوسع استيعابا. كما غرّد الناقد سعيد السريحي إن وجود أدونيس بين السعوديين في بلدهم عنوانٌ على ثقتهم بذاتهم، وفي سياق انفتاح المملكة على العالم.
ليس من جديدٍ مثيرٍ أفضى به أدونيس في محاضرتيْه وأمسيته الشعرية في الرياض والطائف وجدّة، فقد كان قد قال ما قاله، مثلا، عن نقده شعر أحمد شوقي، وتعلُّمه لغة المجاز من شعر عمر بن أبي ربيعة. ولم يتزيّد في مجاملاته الرائقة للبلد ومضيفيه (شكرا لكم يا من تُعامِلون وطنكم كعملٍ فني). وقد ظلّ مقيما في مساحات التأمل والمحسوس الجماليّ الرهيف، وهو يقولُ إن علاقته "بهذه الأرض الطيبة، الجزيرة العربية، لا تحدُّها اللغة أو الشعر، إنما هي علاقةٌ حياتيةٌ في مستوى الكينونة". وحتى عندما وصف مدينة العلا، في تجواله فيها، بأنها أجمل مكان في العالم (على ما نُقل عنه)، فهذا يُحسَب إفراطا في التعبير عن بهجته بمكانٍ بِكر، فيه الصحراء والفضاء المفتوح، يتحسّس أنفاسَه أول مرّة. ولم يبدُر من صاحب "غبار المدن .. بؤس التاريخ" تزلّفٌ للسلطة والحكم، وهو الذي لا يفعل شيئا من هذا، وإنْ يأخذ، طبعا، بأعرافِ اللياقة في عبارات الشكر والاحترام.
لم يكن من ضيرٍ في نبش أرشيف أدونيس الذي نقَد فيه السلطة في السعودية (وهو قليلٌ بالمناسبة)، وما سمّاها "الدكتاتوريات الدينية"، والوهابية، ورعاية النظام هناك أفكار ابن تيمية، وكذا تشديدُه على العلمانية، وعلى حرية المعتقد. انتقى بعضُهم من كلام أدونيس أقوالا وكتاباتٍ (غير مدقّقةٍ في غالبيّتها) إيحاءً منهم بأن كاتب "مفرد بصيغة الجمع" يحذف هذا كلّه عندما يؤدّي زيارته هذه. ولا منطق أبدا في هذا الكلام، فلم يُعلن أدونيس تراجعه عن شيءٍ مما قاله سابقا، ولم يطالبه مضيفوه بهذا. وقد سأل سائلٌ: من الذي تغيّر، أدونيس أم المملكة؟ وأين الثابت والمتحوّل في صاحب "الثابت والمتحوّل"؟ وهذان من أسئلةٍ مطلوبةٍ ربما، غير أنها لا تجرَح في تلبية صاحبنا دعوة لزيارة بلدٍ عربيٍّ كبير. وإن، في أيّ حال، ثمّة تناقضاتٌ مشهودةٌ في أدونيس (كما في مثقفين عربٍ كثيرين). وهنا، لا بأس من التذكير بكتاب "الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب"، اختار رسائلَه وقدّمها أدونيس وخالدة سعيد، ضمن سلسلة "ديوان النهضة" عن دار العلم للملايين في بيروت (1983)، وفي المقدّمة اعتبارٌ للشيخ وتأويلٌ يقبلان أفكارا له. وكان مهمّا إيضاح صديقنا صبحي حديدي أن تلك المقدّمة، وإنْ كانت من صفحات "الثابت والمتحوّل" على ما أفاد أدونيس نفسُه، جرى عليها بعضُ التكييف.
زيارةُ أدونيس السعودية واقعةٌ ثقافيةٌ إيجابيةٌ وحسنةُ المردود، وكان الأدْعى ممن زادوا وعادوا بالتشنيع عليها أن يطالبوه بأن يأتي، في أثنائها، على حرياتٍ عامّةٍ يلزم أن تستجدّ في المملكة، وعدم حبس أصحاب الرأي ... مؤاخذاتُنا على ما لا يقولُه أدونيس أكثر منها على ما يقولُه، في الإمارات والسعودية وغيرهما.