أدبيات الجائحة

26 ابريل 2021
+ الخط -

اختصرت جائحة كورونا جميع أدبيات الجوائح عبر العصور، فما أُلِّف، خلال أكثر من عام من الجائحة من أدبيات وتفاصيل عما فرضته من عزلة وقوانين صارمة، يفوق كل ما قدمته الإنسانية، عبر العصور، في هذا السياق من مؤلفات ومرويات. وإذا كانت أدبيات الجائحة في ما مضى تصدُر مدوناتها بعد وقتٍ من حدوثها، شهدنا مع كورونا إصدارات خرجت في عام الجائحة نفسه، وخصوصاً عام 2020 الذي شهد أوج الإصدارات المتعلقة بها، حيث عبّر كتّابٌ عن انطباعاتهم في ظل حصار كورونا، وأصدروها في كتبٍ ونشروها. والنزوع نحو تدوين الجوائح ليس وليد كورونا، بل له محطات عبر التاريخ العربي. فبالعودة إلى عصر ما قبل التدوين، أول ما يصل إلينا مشافهة، الحادثة في زمن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، حين كلف أبا عبيدة بن الجراح قيادة أحد جيوش الفتح، وفي الطريق وصلت أخبار إلى الخليفة، أن الطاعون منتشر في المكان المقصود، فطلب من القائد الرجوع إلى المدينة. وفي ذلك دلالة على واقعية الخليفة وحسّ المسؤولية لديه، ولكن أبو عبيدة ردّ عليه معاتباً: أتهرب من قضاء الله؟ فكان رد عمر لا يقلّ بلاغة: أهرب من قضاء الله إلى قضاء الله. فخطب أبو عبيدة في الجنود، وخيّرهم بين الاستمرار في المشاركة أو التراجع امتثالاً لطلب الخليفة، فتراجع بعضهم، وتقدّم أبو عبيدة مع الفصيل الذي بقي معه، فهلكوا جميعهم بسبب الطاعون. وفي زمن التدوين تراكمت لدينا أدبيات متعلقة بالطواعين، بأعداد وافرة وموزّعة عبر العصور، مثل كتاب ابن خاتمة الأندلسي "تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد" الذي فصل فيه أحداث الطاعون الذي اجتاح العالم، ووصل إلى الأندلس عام 1348، ويعتبر هذا الكتاب وثيقة نادرة في هذا السياق، وكتاب "الطب المسنون في دفع الطاعون" للطبيب ابن حجفة، وكتاب "الطواعين" لابن أبي الدنيا، وكتاب "بذل الماعون في مرض الطاعون" لحافظ العسقلاني، وكتاب "النبا عن الوبا" لزين الدين بن عمر الوردي، وكثير غيرها.
بالنسبة إلى الأوروبيين وتدوينهم في ما يتعلق بالجوائح، يمكن الحديث عن مجموعة من الأخبار والمرويات والكتب، لكن أقدم وثيقة معروفة هي رواية "ديكاميرون" للإيطالي جيوفاني بوكاتشيو من القرن الرابع عشر. وتحتوي على مائة حكاية على شاكلة ألف ليلة وليلة، يرويها سبع شابات وثلاثة شبان يلتجئون إلى بيت معزول، هرباً من الموت الأسود الذي أصاب مدينة فلورنسا. ومن أهم الأخبار التي يمكن ذكرها في السياق الأوروبي، ما حدث للفيلسوف الألماني هيغل، حين توفي صديقه وأستاذه الفيلسوف فيختة في برلين بالطاعون، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فاعتزل هيغل الناس مدة طويلة. ثم حين ظن أن المرض بدأ يختفي، والكنائس قد فتحت أبوابها، خرج من بيته وتحرك بحذر شديد، لكنه على الرغم من ذلك الحذر والحيطة، أصيب بالطاعون ومات.
وحديثاً، بسبب وفرة الإصدارات عن جائحة كورونا، بادرت دار خطوط وظلال الأردنية إلى تخصيص فرع من إصداراتها تحت مسمى "سلسلة مرويات الفايروس"، صدرت ضمنها كتب أنجزها مؤلفوها ونشروها في زمن الجائحة، وهي تبث لنا حرارة تفاعلهم وتفاصيله مع العزلة التي فرضها انتشار فيروس كورونا، من أمثلتها الكتب: "في قبضة الكابوس - ثلاثون يوماً من الحصار" للسوري جان دوست، و"أحلم بالرصيف" للأردني محمد العامري، و"مسافر في البيت" للجزائري عبد الرزاق بوكبة، و"أرخبيل الفزع" للمغربي أنيس الرافعي، و"الست كورونا" للفلسطيني عادل الأسطة، وغيرها.
ويدخل هذا النزوع نحو تدوين تفاصيل الجوائح والطواعين والكوارث العامة في باب التوثيق، وهو ضروري لحفظ التفاصيل وبقائها، كما حدث مع كتب القدماء، فلو لم تُوثَّق، لصعب علينا معرفة شيء من أحداثها. وغير بعيد عن ذلك، الفقرة المعبرة للجاحظ "ولولا الكتب المدوّنة، والأخبار المخلدة، والحكم المخطوطة، لبطل أكثر العلم، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر؛ فالكتاب هو الذي قيّد على الناس كتب علم الدين وحساب الدواوين".

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي