أدباء حرّاس مرمى
لم يكن غريبا من صحيفة نيويورك تايمز، في مارس/ آذار 2009، أن تختار الروائي الروسي (الأميركي الجنسية)، فلاديمير نابوكوف، حارس مرمى فريق كرة القدم الذي شكّلته من أدباء عالميين شهيرين (وضعت نجيب محفوظ في قلب الدفاع)، كانوا لاعبي كرة قدم في شبابهم الأول. كان الاختيار في محلّه، فصاحب رواية "لوليتا" لعب حارس مرمى قبل أن يصبح الكاتب الذي نعرف، غير أنه كان في وسع الصحيفة العتيدة أن تختار غيرَه من بين أدباء آخرين زاولوا كرة القدم، ثم انعطفوا إلى مراوغة اللغة واصطياد ما تأتي به قرائحُهم وأخيلتُهم من ضرباتٍ ولمساتٍ جماليةٍ وأدبيةٍ في إنتاجاتٍ شعريةٍ وقصصيةٍ وروائية. من حرّاس المرمى أولئك الروسي أيضا (من أصل أوكراني) الشاعر يفغيني يفتشينكو (توفي في 1917)، الذي كان يقول إن قواعد كرة القدم أكثر سهولةً من قواعد الأدب، فالشاعر يأخذ وقتا أطول حتى يُثبت أن كرته أصابت الهدف. ولا يُنسى حارس المرمى غابرييل غارسيا ماركيز الذي كُتب عنه إن كرةً قُذفت عليه وهو يحمي شِباك فريقٍ محلي في بلدته (أراكاتاكا) في كولومبيا، وأصابتْه في بطنه، وكانت شديدةَ الإيذاء لمعدته، فغادر كرة القدم نهائيا، وإنْ بقي مشجّعا ومتابعا. غير أن أشهر حرّاس المرمى من أهل الأدب ألبير كامو (حاز نوبل للآداب 1957)، وهو المولود في الجزائر، فقد لعب في فريقٍ في وهران، قبل أن يُغادِر إلى بلده فرنسا في نحو سن السابعة عشر عاما، وكان مريضا (بالسل)، وفقيرا بعض الشيء. وظلّ يقول إن ما تعلّمه من أخلاقٍ كانت من كرة القدم. ولما سُئل مرّة أيهما يفضّل، كرة القدم أم المسرح، أجاب: كرة القدم بلا تردّد.
يكتب صديقنا الشاعر التونسي، آدم فتحي، في نصّه "الكاتب واللاعب"، في كتاب "سحر كرة القدم .." الذي أصدرته "العربي الجديد" أخيرا، من إعداد كاتب هذه السطور وتحريرِه وتقديمه، إنه يرى أنه ليس لحراسة المرمى أفضل من ألبير كامو، إذ يذكّره بالحارس التونسي عتّوقة، الذي واجه "رجّة تراجيدية"، بتعبير فتحي، عندما ساهم في ترشّح تونس إلى كأس العالم 1978 في الأرجنتين، ولكنه حُرم من اللعب فيها. ومن طريف ما كتَبه شاعر الفصيح والكلمات المغنّاة (للطفي بوشناق والشيخ إمام وغيرهما) إنه لو كان له أن يشكّل فريقا نسائيا أدبيا لكرة القدم لما وجد صعوبةً في تسليم عهدة حراسة المرمى إلى سيمون دي بوفوار أو نوال السعداوي.
ولواحدٍ مثل صاحب هذه المقالة أن يجهر هنا باندهاشه من قلّة الاكتراث بحارس المرمى الذي كانت تُمارسه المدارس التي أمضى فيها الابتدائية والإعدادية والثانوية في بعض حصص الرياضة البدنية، وفي مبارياتٍ مرتجلةٍ بين وقت وآخر، حتى توطّن في ذهنه أن حارس المرمى لاعبٌ لا أهمية له، أو هو ثانوي ربما، مع أنه الحامي الذي عليه عبءٌ ثقيل، بل وربما عليه مسؤوليةٌ وطنية وقوميةٌ إذا جاز بعض التزيّد هنا. وعندما يكون أدباءٌ نجوم (بينهم فائزون بجائزة نوبل) اختاروا (أو اختير لهم؟) أن يكونوا حرّاس مرمى لمّا لعبوا كرة القدم، فهذا ربما يدلّ على وعيٍ بأهميةٍ خاصة لأدائهم وولعهم بكرة القدم، أو على قناعةٍ بعدم أهليّتهم للعب في الدفاع أو الهجوم، أو ظهيرا أيمن أو أيسر.
أظنّه على حقٍّ كثير الصحافي البريطاني المختصّ بكرة القدم، جوناثان ويلسون، الذي أنجز كتابا سمّاه "قصة حرّاس المرمى .. المنافس ضعيف الحظ"، لمّا كتب إن حارس المرمى نُظر إليه "لاعبا ثانويا"، فيما هو اللاعب الأكثر عرضةً لأفدح أشكال الانتقاد، والنقد، والتوبيخ أحيانا، فأخطاؤه قد تكون قاتلة، وبراعتُه قد تكون منقذة وحاسمة. وعلى ما يفيد هذا الكاتب (الباحث)، فإن نظرة الثقافات المختلفة تباينت بشأن حارس المرمى، فروسيا مثلا تنظر إليه باحترامٍ كثير، بينما النظرة إليه في البرازيل واسكتلندا أنه مهرّج.
كان طريفا من الروائية المصرية، منصورة عز الدين، أن تُخبرنا، في نصّها "دفتر كأس العالم المفقود" في كتاب "سحر كرة القدم"، بأن أخاها المفتون بكرة القدم كان يستعين بها "حارس مرمى" له في تدريباتِه على ضربات الجزاء، وإنها لطالما أدّت هذا الدور وهي في غاية السعادة. أما الروائي الجزائري واسيني الأعرج فنتعرّف في نصه في الكتاب على "مسارٍ رياضيٍّ" له إبّان كان في صباه لاعب كرة قدم في "أصاغر الوداد" في مدينته تلمسان، وقد أصبح، في تلك الغضون، حارس مرمى الفريق، ويكتُب "أتذكّر بعض ارتماءاتي وتمطّطي حتى الزوايا لإنقاذ المرمى من أهدافٍ محقّقة. كنتُ أرمي بنفسي بكل قواي، نحو الكرة، على الرغم من أن الملاعب وقتَها لم تكن معشوشبة".
هيّا نحتفل بحرّاس المرمى في مونديال قطر 2022. هيّا نحبهم. هيّا نحييهم، فهم أصحاب مهماتٍ بالغة الحساسية .. سيّما عند ضربات الجزاء، لا قدّر الله.