25 اغسطس 2024
أخطاء سورية قاتلة
مَنْ كان يذهب، في أيام السلم، للاشتراك في مسيرة تأييد للقائد المفدّى حافظ الأسد، كان يضع رأسَهُ، ليلاً، على المخدّة، لينام، ويبدأ بمراجعة نفسه، ولَوْمِها على التقصير، لأنه، في آخر المشوار، مثلاً، سمح للتعب بأن يظهر على محيّاه، وصار يسحب ساقيه في أثناء المسير، وكأنه مصاب بفتاق أو قيلة مائية، وحينما مرّ أمام الكاميرا لم يرفع إصبعيه بعلامة النصر، والأسوأ من هذا كله نزولُه، قُبَيْلَ انتهاء المسيرة، من زقاق فرعي، هارباً من تتمتها، غيرَ منتبهٍ لوجود الرفيق أبي كفاح، المختص بتسجيل أسماء الهاربين من المسيرة، المتخاذلين، المتساقطين على دروب النضال.
نستطيع أن نقول، بلا تردّد، أن وضع الأشخاص الذين يشاركون في المسيرات الجماهيرية أسهل بكثير من وضع السياسيين الذين يشاركون في المهرجانات الخطابية، حيث الإضاءة والكاميرات وأجهزة التسجيل التي لا تتوقف عن العمل، والإنسان، في جو كهذا، قد يرتبك فتفلت منه كلمةٌ ملتبسة، أو عبارةٌ حَمَّالةُ أوجُهٍ تلقي به في مهاوي الردى... وأما الأخطاء التي يرتكبها الإعلاميون فهي من النوع الذي لا يُغْتَفَر، بدليل أن حافظ الأسد، في سنة 1997، زَجَّ طاقم تحرير جريدة البعث، كله، في السجن، إلى أجلٍ غير مسمى، بسبب مقالة للراحل ياسين رفاعية، نُشِرَتْ عندهم بالغلط.
في كتاب "حكايات سورية لها علاقة بالاستبداد" الذي سعدتُ بتحريره، حكايةٌ لإياد خضر عن حفلة تدشين مشروع مياه يُغذي إحدى البلدات السورية. كانت البلدية قد رَصَدَتْ لتنفيذ ذلكم المشروع مبلغاً مالياً كبيراً، واستمر تنفيذه سنواتٍ، حتى أصبح نبعُ الماء جاهزاً للاستعمال، فأرسل رئيسُ البلدية دعوةً كريمةً إلى الرفيقين، أمين فرع حزب البعث والمحافظ لحضور الحفل، فحضرا. وبحضورهما، مع الرفاق أعضاء الفرع والشعب الحزبية والمسؤولين الكبار في المحافظة، قُرعت الطبول، وتَرْغَلَتْ المزامير، وعُقدت الدبكات أمام مكان النبع الذي زُيّن بصور القائد التاريخي، حافظ الأسد، وأعلام الجمهورية وحزب البعث، واللافتات التي تشيد بالقيادة التاريخية للأسد، وتعتبره باني سورية الحديثة.
لم يحصل في الحكاية شيءٌ يعرقل صفوها، حتى إن المحافظ، بعدما قصّ الشريط الحريري للمشروع المُدَشَّن، وفتح صنبور الماء، اضطر لأن يُبعد وجهه من أمام الصنبور، لأن الماء (نَشَبَ) بقوةٍ باهرة، وهذا ما زاد في فرح الراقصين والمحتفلين بهذا العطاء، وجعل النسوة المتجمهرات على سطح البلدية يزغردن على نحو يشرح الأنفس.
الخطأ الوحيد الذي ارتُكب هناك، هو أن الفلاح أبا عبدو الحجي كان قد اتفق مع محاسب البلدية، سراً، على إحضار صهريج ماءٍ إلى القسم الخلفي من المكان، ووصل بربيش خفي إلى حجر الأساس الخاص بالتدشين، وتركه مفتوحاً حتى يقذف بالماء في اللحظة التي تمتد يدُ المحافظ لفتح الصنبور، على أن يدفع له مئة ليرة سورية ثمن الصهريح، ولكن المحاسب الطماع لم يدفع، وشوهد أبو عبدو الحجي غاضباً وهو يبربر قائلاً: أكبر خطأ يمكن أن نرتكبه، نحن السوريون الذين نعيش في ظل القيادة الحكيمة لحافظ الأسد، هو أن نُقَدِّمَ الخدمات لمنظمي الاحتفالات من دون أن نقبض مستحقاتنا سلفاً، فالمثل يقول: بعد العرس ما في قرص!
وهناك، في الحقيقة، أخطاء تشبه الفايروسات الإنتانية، من حيث أنها لا تُرى بالعين المجردة، تلخصها حكايةٌ غريبةٌ بطلُها مثقف استمر في خدمة آل الأسد أربعين سنة، لم يرتكب خلالها خطأ، أو هفوة، إذ كان يمتدح القائد في المناسبات، وخارج أوقات المناسبات. وذات مرة ارتفعت لديه (النسبة)، فامتدح رئيسَ الوزراء، ووزيرَ الإعلام، ووزير التموين، والضابطة العدلية،... ومع ذلك، جاء يومٌ طردوه من نعيمهم، لأن منظره لم يَرُقْ لزوجة أحد المتنفذين، وهي صبيةٌ صغيرة بالغة الجمال، فقالت لزوجها، بغنج: ألن تخلصونا من هذا المنافق حبيبي؟ يخرب بيته، لقد استهلك قاموس المدائح كله.
فقال لها، وهو يفتل شاربيه ويتلمظ: أنا تحت أمر الحلوين.