أحمد بيضون وتعثّرات التحديث
القطيعة التي يعيشها العرب مع الحداثة، وما أنتجته من حركة تاريخية كونية، لم تكُ لتكون بهذه الحدّة ربما، لو لم يعرف العالمُ العربيُّ بداياتِ نهضةٍ عربيةٍ حقيقيةٍ. ومثلما كان السؤال "من أنا؟" هو سؤال النهضة المتأتّي عن صدمة اللقاء بالآخر، لا بد وأن يكون الواقع المتصحّر دافعا للسؤال عن أسباب فشل تلك النهضة في تحقيق أيٍّ من أهدافها. هذا ما يطرحه المؤرخ والعالم اللغوي والباحث اللبناني، أحمد بيضون، في كتابه الصادر عن دارَي آكت سود الفرنسية وشرق الكتاب اللبنانية، "في التحرُّر العربي وعَثَرَاتِهِ.. مُقارَبات اعتباطية لتَحديثٍ مُعَرْقَل"، والذي حاز أخيرا جائزة فينيكس لعام 2020. فعلى ما يتكشّف في المقالات العشر المجتمعة في هذا العمل القيّم والشيّق (يمتدّ تاريخُ كتابتها على نحو ثلاثين عاما)، فإن موضوعاتها "تتعلّق بالعوائق التي منعت الحداثة في الأراضي العربية الإسلامية"، وبفشل أليم إمّا في تحرير الجسد من قيود الفقه، أو في ترسيخ المفاهيم الديموقراطية، أو في التخلّي عن الخرافة واللاعقلانية في التعاطي مع مكتسبات التحديث،.. إلخ.
بداية، يرسم أحمد بيضون ما يشبه سيرة ذاتية فكرية ممتعة، تُطلعنا على نشأته في قريته بنت جبيل، وتعرّفه شابّا على التيارات الفكرية والفلسفية، ومن ثم سفره إلى باريس للدراسة (1963). يقول: "العالم حيث دارت طفولتي ومراهقتي كان ينقلب، لكن في أعماق قلبي زُرعت، كالنَسرة، كلمة فرنسية جدا، هي الحرية". واكبتها مفردةٌ أخرى، هي السخرية، كونها فضيلة لصيقة بالثقافة الفرنسية التي هي ثقافة اللاحترام، باعتباره موقفا فكريا، ذلك أن "لا أحد عبقري بما يكفي لكي يستحقّ استقالتَك من العقل". في الفصول التالية، ينتقل بيضون إلى توصيفٍ دقيق لعملية التحديث في العالم العربي وتأثيراتها على الحياة اليومية. "لقد دخلت الحداثة إلى الشرق عنوة، وانتشرت فيه بواسطة القمع والعنف". وقد أدّى دخول الآلة إلى زعزعة البنى الجماعية وعلاقة الفرد بها. و"النزاعات هذه، صغيرة وكبيرة، ليست سوى فروع مشكلة عامة، فالإسلام الذي تم تصوّره على أنه السيّد الوحيد في أرضه، ما عاد قادرا على ذلك، في عالم لم تعد حدوده منيعة على أي مستوى، وما عاد هو مسيطرا عليه...". لذا قد يكون الخلاص في اعتماد الإسلام الأخلاقي، القائم على مبدأ التقوى وعلى الخوف من عصيان القانون الإلهي، وأذيّة الآخر أو الإساءة إليه.
في منحى آخر، يتناول بيضون مسائل تحديث المعاجم والقواميس، والصعوبة التي يواجهها العرب في تسمية العالم الحديث، ومعه الأشياء العديدة التي لم يخترعوها، لاجئين إلى ترجمتها بدل إيجاد مرادفاتٍ مناسبة لها، في لغةٍ لم تبخل يومًا في تصنيف الأشياء ووصف مكوّناتها. وفي فصلٍ مخصص لطه حسين، يربط بيضون بين الأسباب التي لا تني تبعث اهتماما متزايدا به، بوجود أزمةٍ فعليةٍ في مصر منذ نشوء الدولة الحديثة مع محمد علي، واضطرار الإسلام إلى التعامل مع هذا "الدخيل" (الحداثة). وفي بحث ممتع في كتاب "النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى" لشيخ الطائفة أبي جَعفر الطوسي (995 - 1050)، تمثُل صورةُ الجسد بحسب أحكام الفقه، بما هو جسد نجس ينبغي ضبط وظائفه الطبيعية بالعبادة والصلاة والشعائر لكي يرقى إلى الطهارة، ففي المقدرة على التحكّم به، يكمن معنى نشوء الأمّة ونقطة انطلاقها. أما في موضوع "العلاقات بين التشيّع والديمقراطية"، فإن بيضون يوضح أن الديمقراطية لا تتوافق مع عقائد السلطة الدينية، حيث يقوم رفضُ مبدأ الديموقراطية في جوهر التشيّع، إذ كيف يُترك لإرادة الشعب أو للعامّة من المؤمنين أن تقرر وتختار الإمام الذي يمثّل قدسية الأنبياء والأئمّة وعصمتهم عن الخطأ؟ أو ليس هذا هو مفهوم ولاية الفقيه؟ في المقابل، يناقش بيضون فكرة النيابة التي لا ينبغي أن تكون حكرا على فقهاء يحتكرون العِلم، طالما أنهم بشر غير معصومين عن الخطأ، مع ضرورة التركيز على مبدأ الشورى المشترك لدى الشيعة والسنّة، وذلك لاقترابه من آلية ديموقراطية تمثيلية.
هذا وتتناول الفصول اللاحقة العلمانية وتصوّراتها قبل الربيع العربيّ وبعده، مع التركيز على ضرورة فصلها عن منطق الأقلية؛ وبيروت التي تختلف صورتها في وجدان من عرفوها من مثقفين غربيين وعرب؛ ووباء الطائفية الذي تتبرأ منه جميع الطوائف اللبنانية منه، مع عودة في الفصل الأخير إلى صورة الجسد في كتاب النهاية للطوسي، حيث هناك في الدين تقسيم بحسب مبدأي الحلال والحرام، وفي الديمقراطية بين الفضاءين، العام والخاص، مع براعة الاستنتاج والتدليل على وجود صلة بين صورة الجسد والفساد عبر وجود شبكات تحالفٍ وحمايةٍ بين الموظف والطائفة.