أحقاً لا عزاء؟
كيف نتعزّى عن ضياع هذا كلّه؟ كيف نواسي ذواتِنا ونحن قد أمضينا أيّامَنا حروباً أهليّة وغربةً وخوفًا ومرارات. أجل، وقد بدأ العمرُ يوصد أبوابَه واحدًا تلو الآخر، دافعا إيّانا إلى المخرج الأخير. نستعدّ للرَّحيل، مُدركين أنّ جعبتنا من الزّاد فارغة، وأنْ لا شيء مبهجًا نحمله معنا. لا مرآة، لا عطر، لا وهم، لا ذكرى، لا وجه. فقط طفولات مقضومة، وأرواح منقوصة، وحيوات مرمّدة تمضي هباءً إذ يندثر غبارُها في الهواء. أيها الإخوة، صدِّقوا أنْ لا عَزاء. فما مضى لن يُستعاد، وما تبقّى، ليس أكثر من كِسْرة متعفّنة في عمق دُرج خاوٍ، لا تُغني ولا تزيد. لقد أحببنا بلادًا لم تُحببنا، حملناها ولم تفعل سوى صدّنا وردّنا وإبقائنا عراةً خارجها. لطالما تهافتنا إلى أحضانها باكين مستنجدين، فلم تلتفتْ، وما غسلتنا، وما أطعمتنا، وما أهدتنا لا شجراً، ولا بحرًا، فقط حَجَرًا مُرًّا وبيضًا فاسدًا وقمحًا أسود. لقد انتمينا إلى بلادٍ تقول لنا، يوميًا، إننا لسنا منها وإنها ليست لنا، وإننا، وإنْ عاندنا وتشبّثنا وبقينا، فسوف تُحرق أصابعَنا، ثم تنفضنا عنها، ولن نجد ما نتمسّك به لتفادي السقوط.
أيها الإخوة، تقبّلوا أنْ لا عَزاء، لأن الخديعة باتت هي المَخْدَع، والمرارة هي اللّحاف. لا تنظروا إلى سماء هذي البلاد، فليس فيها رجاء، ولا تخاطبوا أرضَها فهي الهوّة والمصيدة، وهي اللّغم والسُمّ والسكّين. خساراتُنا لا تُحصى. ومع ذلك، ما زلنا نبكيها ونتوق إليها ونأمل بحبّها. قتلاها مرميّون في العراء، جثثُهم المتحلّلة تغطّي السهولَ الواطئة، ونحن مكشوفون أمام غزاة ومرتزقة يشحذون نصالَهم على مرأى منّا. المعدن يلمع تحت أشعّة شمسٍ حارقة، والخيول مبقورة البطون ملقية على جوانبها تلتقط أنفاسَها الأخيرة. والدمُ، يا إلهي، كم هو كثير. الدّمُ سَواقٍ، وأطفالُنا همدوا وقد أضاعوا أطرافَهم الصغيرة. أمّا نساؤنا وعجائزنا فيلملمون فُتاتَنا وبقايانا ليحملوها إلى مدافن يصلّون أن يعثروا عليها في مكان ما.
أيها الإخوة، تذكّروا أنْ لا عَزاء، ولتسقط السماءُ فوق رؤوسنا، لتبتلعْنا الأمواجُ العاتية، ولتنشقّ الأرضُ متفتّتةً تحت أقدامنا. نحن لسنا أبناء الحياة. نحن لسنا أهلا للحياة. نحن لم نُخلق أصلا، وما وُجدنا، وسوف نمضي ولا يكون لعبورنا أيُّ أثرٍ في زمان أو مكان. يا للخديعة، فقّاعاتٌ تعلو مستنقعاتٍ آسِنة لا تزورُها الشمسُ، ضفادعُ تملأ الليلَ نقيقًا، روائحُ تائهة تبحثُ عن أجسامٍ تُنقذها من الزوال، هذا ما نحن عليه.
خَلّفَ جدّي لأبي تركةً من حكايا ووصايا في أصناف العباد وحبّ البلاد. وخلف أبي لي، تركة أبيه، وأضاف إليها مسبحةً من عقيق، وبروازًا من خشب الأرز، وقبرا في أرضٍ بهيّة مزروعة بالشجر والحشيش. نحن، ماذا سنترك لأولادنا الذين ما أن نلدهم، حتى نعلّمهم قواعدَ النجاة وقوانينَ الهرب إلى البعيد؟ ألسنا أبناء أولئك الأهل الطيّبين، فلمَ ترانا لا ننجب إلا أولادًا من ورقٍ وقماشٍ، يطيرون كيفما طيّرتهم الريح، وإذ نخرج من كوابيسهم، لا نجدهم على مقربة، كأننا ما ولدناهم في البيوت، حيث لم تُبقِ العاصفة على سقوفٍ أو جدران.
يأتيني والدي في الحلم، عابسًا وراء سُمرته التي تشبه نحاسَ المغيب. يسألني ماذا أتيتُ ولمَ اجتمعتْ من حولي خيوطُ العناكب، وكيف تركتُها هكذا تلتفّ من حولي حدَّ الاختناق. تسيل دموعي، وأتمنّى لو تمتد يدُه إليّ فتسحبني من محنتي، فأجدني جالسةً فوق فخذيه ألاعب شامتَه الكبيرة التي في زاوية فمه اليسرى. لكنّ أبي ميت، وأنا مدركةٌ أنه إنما يخاطبني من الغياب. أنا لم أفرّط في تركتك، يا أبي، أقول له، هم من اجتمعوا عليّ، وسلبوني عزّتي، وقوّتي، ولم يُبقوا حتى على الحذاء. أسمعهم يردّدون كأنهم من الجريمة براء: البلاد تحتضر. البلاد تنهار. البلاد تزول .. وتسألونني، أحقّا لا عزاء؟