أحداث وفقّاعات ومؤشّرات
ليس كل ما يحصل في المجال السياسي وفي العلاقات الدولية اليوم، وتتداوله وكالات الأنباء، قابلاً للفهم والتعقل. إنه في كثير من أبعاده يشير إلى جملةٍ من المعطيات، ما تزال في أطوار تشكّلها، رغم كل ما تستوعبه من تصوُّرات ومواقف. ونَفترض أن تسمح صيرورة تطوّره بإدراك بعض أبعاد ودلالات ما يحمله من معطيات. كما يُمكن أن يسمح بإمكانية ذوبانه واندثاره، أو اتّخاذه مظاهر وأوجُهاً أخرى مختلفة عن الوِجهة التي كان عليها. ولهذا السبب، اعتبرنا، ونحن نُواجِه بعض الأحداث السياسية الجارية في مجال العلاقات الدولية، أننا بصدد وقائع سيكون لها ما بعدها في النظام الذي يحكم العالم اليوم. وتحمل هذه الأحداث العلامات الأولى التي يمكن أن تُولِّد، بالفعل، مؤشّرات مُحدَّدة، في دوائر الصراع المشتعلة في عالمنا، كما تحمل جوانب أخرى، منها طابع الفُقاعات والبالونات المستخدمة لقياس مستويات الوعي المرتبطة بها، إذ لم يعد من السهل في عالم مركَّب من عوالم متعدّدة ومتصارعة، ولم تعد تحكمُه ضوابط متوافَق بشأنها، إصدار أحكام قاطعة في موضوعات تتسم بكثير من التعقيد السياسي والتاريخي، وترتبط بأنماط من الصراع السياسي الدائرة اليوم في العالم.
الإشارة هنا إلى الأحداث والتعليقات، التي أُثيرت بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أخيراً، إلى بعض البلدان الأفريقية، وكذلك إلى ظاهرة هجرة أو تهجير بعض الأفارقة من جنوب الصحراء إلى بعض الدول في شمال أفريقيا، والنقاش الذي فَجَّره هذا الموضوع في فضاءات التواصل الاجتماعي، في كل من تونس والمغرب والجزائر، عن السكان الأصليين لشمال أفريقيا. ويرتبط الموضوع بأفق مشروع النهوض الأفريقي، كما يرتبط بالبحث في كيفيّات التخلص من الميراث الاستعماري، الجاثم فوق القارّة الأفريقية بأشكال وصور جديدة. أما الحدث الثاني الذي تريد هذه المقالة التوقف أمام بعض الإشارات التي يحملها، فيتعلق بالمبادرة التي أقدمت عليها الصين في ملفٍّ للمصالحة بين والسعودية وإيران، ونضيف إليها الخطاب الذي ألقاه الرئيس الصيني، شي جي بينغ، عن بعد، يوم 15 مارس/ آذار الحالي، في اجتماع ضَمَّ عديدين من قادة الأحزاب والمنظمّات السياسية لأكثر من 150 دولة، وذلك لمناقشة مشروع الطريق نحو التحديث ومسؤولية الأحزاب السياسية.
ويرتبط الجامع المركزي بين هذه الأحداث بمسألة التحوّلات الجارية في العلاقات الدولية. ونتصوَّر أنه يمكننا ربطها أيضاً بمجموع الأسئلة التي أثارتها وما تزال تثيرها الحرب الروسية على أوكرانيا، وقد دخلت سنتها الثانية، رَاسِمَةً أسئلةً عديدة في مجال تحوّلات النظام العالمي وكيفيات تطوُّره. ففي مختلف الأحداث أعلاه، نقف على أحداث وفقّاعات، كما نعثر على ملامح عامة لمؤشّرات مرتبطة بنظام التحوُّل الجاري في ميدان العلاقات الدولية.
عقلية الحرب الباردة متواصلة، وتحديث البشرية يقف اليوم أمام مفترق طرق
إذا كنا نعتقد أن التحرّكات السياسية الصينية أخيراً ترتبط بالحرب الروسية على أوكرانيا بطابعها المُركَّب، فإنها، قبل ذلك، ترتبط بحضورها الاقتصادي الكبير في العالم اليوم، وسعيها إلى بلوغ مكانة تُناسب هذا الحضور، الذي يشمل كُلّاً من أوروبا وأفريقيا وأميركا. وترسم تحركاتها هذه شكلاً من أشكال مواجهتها أميركا، وهي تعبّر بواسطته عن حاجتها للمشاركة في بناء بعض أوجُه النظام الدولي الجديد. إنها عندما تُشرف على المصالحة الإيرانية السعودية تواجه التصعيد الأميركي ضد طهران، وتزاحم الولايات المتحدة في مواقعها في الخليج العربي، وتنطلق من وعيها بالدور الإقليمي لطرفي النزاع ومكانتهما في المشرق وفي الخليج.
تَرتَّب على المصالحة بين السعودية وإيران الحاصلة في اللقاء الثلاثي في مارس/ آذار الحالي بيان ثلاثي أعلن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران خلال الشهرين المقبلين، كما عمل على تفعيل بنود اتفاقية التعاون الأمني المعطّلة بينهما منذ 2001. ونفترض أن يشرع الطرفان في بناء علاقات جديدة، من أجل المساهمة في تطوير نظام العلاقات الدولية في عالم مُتغيِّر، عالم متعدِّد الأقطاب يسمح بفتح الأبواب أمام أنماط جديدة من العلاقات الدولية.
نجاح الصين اليوم في القيام بتحرّكات سياسية عديدة، مع روسيا ومع دولٍ عديدة في كل من أوروبا وأفريقيا، ونجاحها اليوم، في الإشراف والعناية بتدبير وساطة جغرافية سياسية، ذات صلة بالنفوذ الأميركي والصراع الإقليمي في المشرق وفي الخليج العربيين، دليل على فعالية الخطوات التي تمارس من أجل موقع في دوائر الصراع العالمي. أما تطوير علاقاتها مع إيران فيتمثل في الاتفاقية التي أبرمت معها في موضوع التعاون الاستراتيجي في قطاع الطاقة، الأمر الذي يساهم بدوره في تقليص الدور الأميركي في هذا المجال بالذات.
لم يعد من السهل في عالم مركَّب من عوالم متعدّدة ومتصارعة، ولم تعد تحكمُه ضوابط متوافَق بشأنها، إصدار أحكام قاطعة
لم تكتف الصين ضمن تحرّكاتها السياسية أخيراً بما ذكرنا، بل انخرطت في تقديم تصوُّرها للتحديث، حيث رسمت في خطاب التحديث الذي قدّمه رئيسها أمام عديد من قادة الأحزاب السياسية وممثليها في العالم، تصوُّرها للتحديث والتنمية والشراكة والتقدّم، إذ أعلن أنها لن تسلك طريق النهب التي اختارت الدول الاستعمارية في القرن 19، واقترح مبادرة الحضارة العالمية، مؤكّداً أن عقلية الحرب الباردة متواصلة، وأن تحديث البشرية يقف اليوم أمام مفترق طرق، حيث تُظهر أحداث اقتصادية وسياسة ومالية أننا في بدايات عالم جديد، رغم كل الفجوات التي تتّسع كل يوم في مجال التنمية، ورغم مختلف مظاهر التدهور الإيكولوجي الناتجة عن أشكال تطوّر الصناعات، وتطوُّر علاقة الإنسان بالطبيعة في عالم متغيِّر.
لا يتردد الخطاب في استعمال مفردات مألوفة في تاريخ التمهيد للهيمنة الأميركية والغربية على العالم، رغم أنه يتوخّى إصلاح ما يسميه "نظام الحكم العالمي" وتطويره. يتعلق الأمر بالحديث عن "نظام دولي أكثر عدلاً وإنصافاً ... يدفع عجلة تحديث البشرية في بيئةٍ تسودها المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص والقواعد المنصفة للجميع". وهو لا يتردّد، أيضاً، في اقتراح حلول لتضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، وتحقيق التنمية المشتركة. إلا أن ما نُعاينه خارج الخطاب المعلن وحوارها المتواصل مع روسيا وإيران، واستمرار مواجهتها للمصالح الغربية، وسعيها إلى مزيدٍ من تعزيز علاقاتها السياسية والدبلوماسية في أفريقيا وفي الخليج العربي، وقيامها اليوم بمصالحة إيران مع السعودية، إذ تتغنّى بالتحديث والتسامح والتعايش والتبادل، وتقترح مبادرة الحضارة العالمية! فهل نقف اليوم أمام أحداثٍ أم أمام خطاباتٍ تمهّد لما نقترب من رؤيته فعلاً في عالم متغيِّر؟