"يا عمّال العالم .. ناموا"
هل يمكن تصوّر حيواتنا من دون نوم، مفلوشةً ومكشوفةً مثل صحراء مديدة، لا مكان فيها لمخبأ، لغياب، لعتمة؟ حياة من اليقظة السَّاطعة، السَّماع والمشاهدة والحركة من دون هدنة، حيث لا سكينة ولا صمت؟ النَّوم، إذا أمكن القول، هو رأفة الإله بنا، إثر غضبه علينا وطردنا من الجنّة. "ملعونةٌ الأرض بسببك، بالتّعب تأكل منها"، يا آدم، وأنتِ يا حواء: "تكثيرًا أُكثر أتعابَ حبلك. بالوجع تلدين أولادا". ومع ذلك، فهو لم يحرمنا النًّوم وقد أبقى لنا هذا الجزء اليسير من الجنوح، من الحرّية. في السّجن الكبير الذي انحدرنا إليه، أبقى لنا الإلهُ فتحةً، صورةً نهرب إليها من لعنة الأرض ونستذكر ما خسرناه إلى غير رجعة. نعم، في الحُلم. نحن نعيد بناء الجنّة. يكفي أن نفكّر بالطّعام فنشبع، بالبرد فندفأ، بالخوف فتحضر أمهاتُنا إلينا مسرعات. حتى أسوأ الكوابيس ننجو منها ما أن نفتح أعيننا لأن إغفاءاتنا هي هذا الوهم الجميل الذي يُساعدنا على دحرجة صخرة حياةٍ تزن أطنانا بأيامها التي من فولاذ، وساعاتها التي من حديد، وثوانيها التي من زئبق.
ومع ذلك، ثمّة من الأبرياء من لا ينامون، لأن ثمّة ما لا يريدهم أن ينعموا باللاشيء. ثمّة أرقٌ يشقّ أنفاقا عصيّةً ومتاهاتٍ معقّدة في المسافة الفاصلة بين جبال اليقظة ووديان النوم. تلك الأمكنة لا يلِجُها سوى قلّة قليلة من الرّائين، أولئك الذين يُعيدون رسمَ الحياة بمعدّاتٍ أخرى، يخترعون لغةً متجدّدة، ويفتحون ممرّاتٍ في حيز اللامرئي. قلّة هم الذين يبقون صاحين في الليل، متيقظين لنبض العالم، لأدنى خلجاته، حرّاسا لدبيب حشرات ما تحت الجلد. هناك، في تلك المنطقة الملتبسة، حيث الهلوسة في الرأس، تلك التي سمّوها الهلوسة الهبناغوجية hypnagogic، يرون إلى ما لا يُرى ويسمعون ما لا يُقال. ويكتبون.
فرانز كافكا مثلا كان من هؤلاء. كان لا ينام ويكتب في الليل ويدوّن هلوساتٍ يقول إنها كانت تأتيه من دون جهد، وما كان عليه إلا أن يصف ما يراه. "كما لو أنها نارٌ هائلة جُهّزت للمخابئ التي تخرج منها أكثرُ الأفكار غرابة، قبل أن ترجع لتختفي فيها من جديد". هكذا يصحو غريغور سامسا ذات صباح، ليجد نفسَه وقد تحوّل حشرة. جاءت الفكرة كافكا ذات ليلة ماطرة من العام 1912. التحوّل المخيف هذا حدث لغريغور، إثر ليلةٍ لم ينم فيها جيدا، وأقلقته أحلامُه المتقطعة. هل كان غريغور، كسيّده، مصابا بالأرق هو أيضا؟ لطالما شكا كافكا أرقَه وتحدّث عنه وعن صعوبة النوم. فالليل هو "عدوي القديم" والنوم هو "أكثر المخلوقات براءة" والرجل الأرِق هو "الأكثر جرما". و"يُخفي أرقي خوفًا عظيمًا من الموت، إذ ربما أخاف أن لا تتمكّن روحي التي تفارقني خلال النوم، من العودة ثانية". كافكا لم يكن الكاتب الوحيد الذي قولب الأرقُ كتاباتِه. هناك الفرنسيّ مارسيل بروست الذي أنجز جزءا كبيرا من تحفته الأدبية، "البحث عن الزمن الضائع"، ليلا، والروسي فلاديمير نابوكوف، والأميركي والت ويتمان، إلخ، الذين صقل عدم النوم موهبتهم وأثّر على إبداعهم. هم وسواهم كانوا يرون في القلق لعنةً ضرورية، كأنّ الإبداع يتطلّب دفع ثمنٍ باهظٍ هو خسارة منطقة الراحة الوحيدة، ألا وهي النوم.
النّوم ليس هبة. هو لا يُصنّع ولا يُباع ولا يُشرى، لا يُعطى ولا يؤخذ. النوم يعصى على كلّ القوانين. إنه فسحة الحرّية الأخيرة في هذا الكون اللّئيم. سلطان النّوم. النّوم سلطان. أمامه تخسر جحافلُ العرض والطلب، إيديولوجيا العمل، الإنتاجية والمنافسة والاستهلاك. ثمّة من كتب (جوناثان كراري) أن "الرأسمالية تشنّ هجومًا على النوم". 24/7، هو الشعار المجسّد لهذا الهجوم. "نفتح 24 ساعة خلال 7 أيام". إنه شعار الرأسمالية المعاصرة حيث المثال هو حياةٌ لا تتخلّلها أيةُ استراحة، شغّالة في جميع ساعات الليل والنهار، في حالةٍ من السُّهاد الكامل الشامل، حيث يجري تقطيع أوصال الوقت وقضمه. كأنما ينبغي تحوير النداء الشهير ليُصبح في الأخير: "يا عمّال العالم .. ناموا"!