"لا تنظر إلى الأعلى"
هل كنا نحتاج فعلاً سخريةً مضافةً لتصوير ما يشكّل من تلقاء نفسه، ومن دون أي تدخّل فيه، باروديا تراجيكوميدية بامتياز؟ بمعنى آخر، هل يحتاج العسل، على سبيل المثال، سكّرا ليصبح أكثر حلاوة؟ قد يكون هذا، برأيي، العطب الرئيس الذي يتحكّم في فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" (دونت لوك آب)، الذي يحتلّ رأس قائمة الأفلام الأكثر مشاهدةً في نهاية العام المنصرم ومطلع العام الجديد، فإلى جانب الإنتاج الضخم الذي نعم به مع ميزانية فاقت 75 مليون دولار، تمّ تجميع باقة من نجوم الشبّاك ومن كبار الممثلين، أمثال ميريل ستريب، ليوناردو دي كابريو، جينيفر لورانس، جوناه هيل، كايت بلانشيت، مع آخرين، في ما يمكن اعتباره "ضرباً" دعائياً استثنائياً.
نحن مع عالِمَيـن فلكيـّين سيكتشفان فجأة أنّ ثمّة مذنّباً ضخماً عرضه ما بين خمسة وعشرة كيلومترات متوجّه مباشرة إلى الأرض، ليرتطم بها بعد نحو ستة أشهر متسبّبا في موت الحياة على الكرة الأرضية وفناء كل ما عليها. يسعى العالمان بسرعة إلى إعلام الرئاسة الأميركية بخطورة الحال وبضرورة التفكير في سبل الخلاص، ومن بينها اعتراض المذنّب برؤوس نووية، وتحويل مساره وتفجيره، لكنهما سيفاجآن برد الفعل المستخفّ والساخر للرئيسة الشقراء (ميريل ستريب) وابنها ومدير مكتبها (جوناه هيل) اللذين لن يقيما أيّ اعتبارٍ لتحذير العالميـْن، وسيعتبرانهما شبه مجنونين من أولئك المصروعين الذين لا يتوانون عن دقّ ناقوس الخطر وتبشير العالم باقتراب نهايته.
بعدئذ، سيرى العالمان أنّ من واجبهما إعلام الصحافة لكي تتولّى الأمر عنهما، فتقوم بحملة توعية، علّ المسؤولين والمعنيين يأخذون تحذيراتهما على محمل الجدّ. لكن هنا أيضا، سيتضّح لهما أنّهما يواجهان صحافةً لا تقيم للحقائق أيّ اعتبار، وأنّ أقصى اهتمامها حيازة أكبر عدد من المشاهدين والقرّاء، ولو على حساب حياة الناس وأمنهم، فنراهما ضيفي برنامج تلفزيوني شهير تقدّمه صحافية (كايت بلانشيت) وزميلها، حيث يجرى التقليل من أهمية خبر النيزك لصالح خبر انفصال مغنية شابة (أريانا غراندي) معروفة عن صديقها الدي جاي تشيللو. أجل، الجماهير على ما تُنبئنا به نسبة المشاهدة، تفضّل الخفّة والتسلية على الأخبار العلمية والجدّية، وهي ستعتبر العالِمَ من أكثر العلماء وسامةً وجاذبية، بغضّ النظر عن جدّية طرحه. وكما هو متوقّع، يقع العالِم في حبال المذيعة الشقراء حائزة الشهادات، سينيكية الموقف، الطامعة إلى مزيد من النفوذ والسلطة، في حين تُستبعد العالمة الشابة الباقية على مواقفها، والرافضة كلّ هذه المهزلة الكونية، لأنّ صراخها الهستيري يخيف المشاهدين.
لا يشدّ "لا تنظر إلى الأعلى" المتعطّشين إلى أفلامٍ ذات مستوى فنّي ورؤية عميقة، وهو سيُعجب، على ما أقدّر، جمهوراً عريضاً لا يحبّ اختباء المعنى أو تعقيداته، أو قراءة ذات مستويات عدّة، فسخريته من النظام الأميركي الذي فرض نفسه نظاماً عالمياً، ستُخاطب حتماً كارهي الإمبريالية الأميركية في وجوهها الأكثر سفوراً، الأكثر مباشرةً، متمثّلة بدونالد ترامب، ومواقفه من الاحتباس الحراري الذي لم يحفل به أبداً، أو بقناة "فوكس" وبرامجها الأقرب إلى الاستعراض منها إلى العمل الصحافي. فقد صرّح مخرجُ الفيلم آدم مكّاي، في هذا الشأن، أنّه أعاد كتابة السيناريو بعدما رأى الرئيس الأميركي ينكر، في أثناء جائحة كورونا، وجود فيروس، ناصحاً الناس بأخذ جرعات من الكلور ليشفوا. لكنّه نفى أن تكون شخصية الرئيسة في الفيلم مستقاة فقط من هذا الأخير، إذ قال إنّه استلهم ملامحها من أكثر من رئيس: "أخذتُ قليلاً من كلّ منهم، فهناك نوع الشخصية الفارغة مثل ريغان، وجانب بائع السيارات المستعملة مثل بيل كلينتون، وغير المؤهل بشكل خطير مثل جورج بوش. أيضاً لديك (لقد صوّتُّ له) باراك أوباما المرتاح بشكل فظيع مع المال. وبالطبع، توجد من ثم نرجسية ترامب المنفلتة".
لا تنظر إلى الأعلى، لأنك لن تجد جديداً في سماء هذا الفيلم الأميركي الذي يردّك كلُّ ما فيه إلى ما سبق أن شاهدتَ وأُعيد، وقد جاء أداءُ ممثليه، الكبار حتماً، خالياً ممّا اعتدناه منهم ألقاً وإبداعاً.