"غلطة العمر الكبرى" .. مقطع من حُكم عائلة الأسد
بينما يميلُ مراقبون عديدون للحالة السورية إلى التقليل من شأن بشار الأسد سياسياً، ينظرون، هم أنفسهم، إلى "الأسد الأب" بوصفه مهندس الدولة السورية المعاصرة، الذي نجح في ترسيخ المبادئ التأسيسية لدولةٍ تسلطيةٍ راسخة وقوية، كانت في ما سبق رمزاً للسياسات الانقلابية الشخصانية القائمة على قاعدةٍ مؤسّساتية ضعيفة. مع هذا، لم يسلم نظامه من انزياحاتٍ مفاجئةٍ هدّدت عرشه القوي، وأصابته بتصدّعٍ قاتل، لعلّ أخطرها تمرّد رفعت الأسد في ثمانينيات القرن الماضي، والذي بدا كأنه تعدٍّ وقح على "قداسة الرئيس" التي أخضعت المجتمع السوري، وغدت الميراث الاستبدادي الأكثر ثباتاً وفاعليةً في سحقِ المعارضين عند اللزوم. وفي الوقت الذي وُلدت فيه شبكةٌ من بارونات الفساد والهدر في سورية، لتظهر برجوازيةٌ جديدةٌ استفادت من الطفرة المالية، وتراكمت كالشحم على جسد الدولة الصاعدة، اختار حافظ الأسد، في نوعٍ من البروباغندا السياسية، للالتفاف على الرأي العام، حياةَ التقشف والبساطة، في حين سار رفعت الأسد مع الذين تمتّعوا بالامتيازات التي وفرتها السلطة، وعزّز ثقته العارمة في أثناء ممارسته مهامه أنه كان حارسَ أخيه ودرعه ضد الخصوم في الداخل، فبات يتصرّف كشريكٍ في الحكم، وليس كمسؤول في الدولة فحسب. وبينما كان الرئيس يعمل بصمتٍ وساعاتٍ طويلة في مكتبه، لإكساب الدولة والمجتمع هوية جديدة، كان الأخ ضحوكاً لعوباً، جمع من حوله آلاف الأتباع في "سرايا الدفاع"، واتخذ لنفسه سلطات عشوائية يمارسها من دون حسيب، ليُثري نفسه وحاشيته بطرقٍ ملتوية، فبنى لنفسه موقعاً مهماً من خلال خبرته الطويلة في أعمالٍ حدّدت مصير البلاد، ففي عام 1966 قاد حملة اعتقال أمين الحافظ ومحمد عمران، وفي 1969 هزم عبد الكريم الجندي المسؤول عن الأمن في نظام صلاح جديد، كما كان رأس حربة النظام في الحرب على الأصوليين في 1980-1982، حتّى لُقّب لدمويته بـ"جزّار حماة".
لم ينلْ رفعت الأسد ثقةَ شقيقه الرئيس بالمطلق، الذي كان حريصاً، بدوره، على ضرورة معالجة مسألة غيابه المرضي عام 1983
ولم يكن رفعت الأسد يتحكّم فعلياً بروافع السلطة، ومع هذا كان مرهوبَ الجانب، مبغوضاً في الأوساط الشعبية لدوره الأمني الشرس. وعندما أسّس مدرسة المظليات من فتيان الثانويات وفتياتها، كانت طالباته يتجوّلن في الشوارع بالزيّ العسكري، ويُجبرن المحجّبات على نزع غطاء الرأس، الأمر الذي أغضب الشارع، وأدّى إلى أعمال عنف، ما دفع الرئيس إلى إبقاء مسافةٍ بينه وبين تصرّفات أخيه الذي ثبّتَ أقدامه، بوصفه قائد سرايا الدفاع، ليصبح حارس النظام الأهم. مع هذا، لم ينلْ ثقةَ الرئيس بالمطلق، الذي كان حريصاً، بدوره، على ضرورة معالجة مسألة غيابه المرضي عام 1983، بتشكيلِ لجنةٍ لإدارة شؤون البلاد، ولم يكن رفعت ضمن أفرادها الستة، إلّا أنّ مجموعة من كبار العسكريين قلقت من احتمال وفاة الرئيس، ومن انفتاح البلاد على شتّى الإشاعات والتكهنات، فعقدت الأمل ليكمل رفعت المشوار بالنظام السياسي نفسه. الأمر الذي أغضب حافظ الأسد مما رآه تخريباً لما بناه، ومحاولةً صريحةً لاستبداله بالأخ العابث. فكيف لأميّ أن يدوزن الخلافات والتوازنات والاتفاقيات داخل السلطة الحاكمة، وهو رجل العنف المجرّد، الهشّ في المناورات السياسية!
وفي الحقيقة الرئيسُ الذي خاض بنجاحٍ غمارَ المياه الغادرة لسياسات المنطقة، وواجه الاستحقاقات الداخلية بقبضةٍ حديدية، كره أسلوب أخيه في السهر واللهو، كذلك ضعفه تجاه كلّ ما هو غربي من كمالياتٍ وتسال، وعتب عليه لعدم وعيه المواقف التي تتخذها سورية تجاه واشنطن وبعض الدول العربية. لذلك لم يكن يرى رفعت بأنه جرصةٌ فقط، بل كان يعتبره خطراً جسيماً وهو على فراش المرض.
تمخّضت الحربُ الباردة بين الأسدين (حافظ ورفعت) عن شيوعِ مناخٍ تجريمي واتهامي، وتبلور نقد "قائد السرايا"
وعندما غلبته شهيّة السلطة، مصرّاً على الوقوع في فخّ التمرّد السياسي المقصود، لم يستطع رفعت الأسد مقاومة إغراءات "كرسي السيادة"، عزّزها انتشار صور له على جدارن الأبنية، صوّرته قائدا عسكريا مهابا. عندها شعر الرئيس بأنّ صفحته تُطوى على مهل، فاستدعى كبار الضباط إلى المستشفى، وحذّرهم من أن يكون تعويمُ أخيه جزءاً من مؤامرةٍ خارجيةٍ لقلبِ النظام. إذ لم يكن الأخير يتصرّف بشكل مطمئن، بدلالة أنه أقام حفلاً خاصاً للاحتفاء بزيارة الأمير السعودي عبد الله بن عبد العزيز، طغى على الترحيب الرسمي الذي قام به رئيس الحكومة آنذاك، فسارع حافظ الأسد إلى إصدار مرسوم رئاسي عيّن فيه عبد الحليم خدام نائباً أول لرئيس الجمهورية، تبعه مرسوم آخر بنقل قيادة سرايا الدفاع إلى محمد غانم. عندها فقط وصل صبرُ رفعت مداه، فأمر قواته في 11 مارس/ آذار 1984 بالتحرك بقوّةٍ إلى قلب دمشق، في ما بدا مؤشّرا لاشتعال حربٍ أهلية مدمرة، تمكّن الرئيس من احتوائها بحفظ مصالح رفعت وأملاكه.
مع الوقت، تمخّضت الحربُ الباردة بين الأسدين عن شيوعِ مناخٍ تجريمي واتهامي، وتبلور نقد "قائد السرايا" ليتحوّل إلى طعنٍ في مسيرة الرئيس، وتقديم رؤيةٍ مختلفةٍ لما يجب أن تكون عليه سورية، وكم سهُلَ عليه التشدّق بضرورةِ إيجاد نظامٍ ديمقراطي أقل ملاءمةً للتسلط! إلا أن سيرة رفعت الشخصية لم تكن كافيةً أخلاقياً لإقناع السوريين بحسن نياته. وفي خطابه احتفالاً بعيد الجلاء عام 1984، هاجم فيه أخاه بصورةٍ علنية، وبعض مما قاله: "يبدو أن أخي لم يعد يحبّني ويعبس عندما يراني .. ولكني لست عميلاً أميركياً ولا سعودياً .. ولو كنتُ مجنوناً لكنتُ دمّرت المدينة، لكني أحب هذا البلد..". وبدا هذا الخطاب تطاولاً سافراً على قمة الهرم السياسي، وبداية لنهايةِ "الأخ المتمرّد". وبالفعل، لم يطل الأمر حتى غادر إلى أوروبا بوساطةٍ روسية ومال عربي. وعلى الرغم من تمكّنه من زيارة سورية مرتين بعد ذلك، لم يتمكّن من تجديد صلاته بسرايا الدفاع التي تحجّمت كثيراً، فأدرك أنه لن يستطيع استعادة سلطانه السابق، ليعود إلى أوروبا مجدّداً. في تلك الفترة، نقل أصدقاءُ رفعت الأسد عنه أنّ قرار تراجعه عن خوض المعركة وتسلّم الحكم في مارس/ آذار 1984 كان "غلطة عمره الكبرى".
أمِلَ كثيرون أن تكون عودة رفعت الأسد خطأ استراتيجياً قاتلاً، وجسراً للخلاص من حكم الطاغية
واليوم، يبدو أنّ بشار الأسد بات أكثر أماناً في منصبه، بعد توقّع عودته إلى المسرح العالمي بخطواتٍ أكثر ثباتاً، "يترفّع" عمّا فعله وقاله "عمّه المنبوذ"، ليسمح له بالعودة إلى سورية، بعدما أصدرت المحكمة الجنائية الفرنسية حكماً يقضي بسجنه أربع سنوات، بتهمة "غسل الأموال ضمن عصابةٍ منظّمة". نعم يعود رفعت الأسد، بكل فضائحه وهزائمه، إلى دمشق، لتكثر التحليلات والفرضيات حول ما إذا كانت عودته ذات أبعادٍ سياسيةٍ وسلطوية، أم أنها إرضاء للطائفة العلوية المسحوقة. وأمِلَ كثيرون أن تكون عودته خطأ استراتيجياً قاتلاً، وجسراً للخلاص من حكم الطاغية. والواضح الجليّ أنّ "الأسد المنفي" يعود متعباً ومهزوماً إلى عرينه الآمن في العائلة التي شُبّهت مراراً بعائلة كورليوني في فيلم "العرّاب"، ما يجعلها جديرةً بعناية خاصة، إذ لا أحد يعرف، على الإطلاق، حقيقة ما يحدث وراء أبواب العائلة المغلقة، المفطومة على الأنا المخدوعة بالتضخّم، والعقل المُبتلى بالتصلب. عائلة أجادت تسويق نفسها عبر ذخيرةٍ من السياسات الدعائية، فماذا تنتظر أن تفهمه من حاكمٍ شبّه نفسَه في معرضِ تبريرِ قمعه الدموي الثورة السورية بـ"الطبيب الجرّاح" الذي يجري عملية جراحية، وقال أمام البرلمان السوري عام 2012: "هل نقول له يداك ملطختان بالدماء؟ أم نشكره على إنقاذ المريض؟".