"صور من كلفة الحياة" في سورية: أين العجب؟
عنوان خبر مصوّر على موقع روسيا اليوم (RT) يعرض بالفيديو شجاراً بسبب خلاف على مقعد في إحدى سيارات النقل ضمن المدن، وتدعى "سرفيس" في سورية، حيث يعتدي شخص بلباس مموَّه، كلباس عناصر الجيوش في بلدان كثيرة، على رجل، ويوسعه ضرباً، لأنه صعد قبله واحتلّ مقعداً في الحافلة، بينما زوجته ترجو المعتدي أن يرأف به، لأنه مريض، تصرخ وتكرر: زوجي مريض.
صورة أخرى لرجل مسنٍّ، في رأسه جرح عميق، والدم يغطي جانب رأسه ووجهه. الصورة جرى تداولها كثيراً على مواقع التواصل وفي بعض الصحف. الرجل تعرض للعنف من شخص أمام أحد الأفران، إذ دفعه هذا الأخير وأوقعه أرضاً، وتابع ليتجاوز الدور في الطابور، ويأخذ خبزه، ثم يعود ويركب سيارته المركونة جانباً، من دون أن يحرّك فيه ساكناً أن رجلاً ربما أكبر من أبيه قد أوقعه ارضاً، وتشكل دماؤه بركة تحته، ومن بين الواقفين في طابور الرغيف مسنون.
صارت هذه المشاهد عنوان اليوميات السورية في ظل تردّي الأوضاع المعيشية إلى حدّ التهديد بلقمة الخبز، ولا يخلو الأمر من مشاهد السخرية المرّة، إذ تعرضُ بعض المقاطع المصوّرة كيف يقوم الواقفون في الطابور، أو المزدحمون، في انتظار الحصول على أرغفتهم، وهم يصفقون ويصفرون، ويعلو الهرج كلما غادر شخص حاملاً حصته بين يديه، مثلما لو أنه حصل على أكسير الحياة. من الصعب تفسير هذه الظاهرة، فهل هي ابتهاج يدلّ على التعاطف والتراحم، وأنه ما زال لدى منظومة القيم رمق لم تخنقه الحرب؟ أم يمكن فهمها بأن مغادرة أحدهم تعني اقترابهم خطوة من الظفر، والفوز بحصتهم من رغيفٍ معجون بالذل وانتهاك الكرامة، ومعه فوز بما يشبه الحياة؟ أم يصحّ بها القول: كالطير يرقص مذبوحاً من الألم؟ فتراهم يقابلون الحياة بعبثيةٍ فائقة، كأنهم يعيشون في برزخ يعتصر أرواحهم، ويسلبهم القدرة على التفكير في كارثتهم، فيضحكون ذاهلين؟
مقابل مشاهد الفقر يزداد إشهار الأنشطة الاقتصادية الجديدة والمشاريع التي تقام، والمنشآت التي تفتح، كما لو أن هناك جزيرة أخرى في الأرض السورية
في كل الأحوال، هذه اليوميات التي صارت العنوان الأساس لحياة السوريين برهان دامغ على مدى الخراب وعمق الصدوع وحجم التشظي الذي تمادى على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية أيضاً. فمقابل هذه المشاهد يزداد إشهار الأنشطة الاقتصادية الجديدة والمشاريع التي تقام، والمنشآت التي تفتح، مثلما لو أن هناك جزيرة أخرى في الأرض السورية، معزولة عمّا حولها من خراب وفقر وجوع وحرمان وأمراض. ولهذه المتاجر والمطاعم والأندية وغيرها زبوناتها في جزء منها. وفي جزء آخر، لا يمكن تبرئتها من محاولات فجّة لغسل أموال حرام، جمعها أصحابها من دم الناس وأرواحهم وأمنهم وطعامهم وصحتهم وعيشهم، فمن البديهي التساؤل والبحث عن الشريحة المستهدفة من هذه المشاريع، في وقتٍ صار فيه الحصول على أساسيات الحياة التي تقلصت إلى الرغيف وكوب الشاي وصحن الفول (أو المسبّحة)، من أصعب المهمات التي يشقى السوري في سبيلها. لكن العبثية التي يتعامل معها السوريون في أزمتهم المتطاولة المتفاقمة التي لا يلوح في الأفق حل لها وصلت إلى حدّ اللامبالاة بالموت، بعد أن خبروه بأشكالٍ لا تُحصى، والموت الحالي قد يشتركون فيه مع باقي البشر، بعدما خصّهم قدرُهم بأنواعٍ لم يشهدها التاريخ الحديث. الموت بسبب الأزمة العالمية التي فرضها مرض كوفيد - 19، وجعل العالم يتخبط في مشكلاته، وكلما حاول فتح باب للحل أغلقت في وجهه أبواب أخرى. ولن يكون السوريون في منجاةٍ، حتى لو قابلوا هذه الجائحة ومخلفاتها التي تزلزل العالم وتصيبهم هزّاتها الارتدادية، بعبثيةٍ حارقة، بل ستُضاف عوامل أخرى فوق أسباب ضنك عيشهم، وسيزداد الانهيار في ما بقي من أركان حياتهم ولم ينهر بعد، وأهمها انهيار العمران الاجتماعي والإنساني.
ما هذا الواقع الذي انحدرت إليه حياة الناس في سورية إلّا نموذج لصورة نمطية، حكى عنها ابن خلدون في مقدمته
هل من جديد في ما يمرّ على السوريين بعد سنوات حربٍ لم ينطفئ فتيلها بعد؟ قبل ستة قرون، قال المفكر الاجتماعي ابن خلدون: من أهم شروط العمران سدّ حاجة العيش والأمن (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). وهذا ما يفسّر البون بينهم وبين العمران، عمران حياتهم ومجتمعهم. وقال أيضاً: الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها. لا، ليس من جديد، فطبائع المجتمعات تتشابه، والتاريخ الذي يراكمه البشر يكرّر نفسه من دون موعظةٍ، يستفيدون منها إلّا في ما ندر. وما هذا الواقع الذي انحدرت إليه حياة الناس في سورية إلّا نموذج لصورة نمطية، حكى عنها ابن خلدون في مقدمته، وأحاطها من كل الجوانب، منها ما يمكن اعتبارها حكمة تُروّس بها الصفحات، كي لا ينسى الناس تجارب أجدادهم "الناس في السكينة سواء، فإن جاءت المحن تباينوا". أمّا تباين السوريين، فقد صفعنا منذ بواكير انتفاضة الشعب، وما زال التباين يزداد اتساعاً، حتى لم تسلم منه منظومة القيم والأخلاق، وازدادت العصبيات والشروخ البينية، فصدمتنا الهوة الواسعة بيننا وبين مفهوم المواطنة، وهي تتعمق اطراداً مع تراجع جودة الحياة "إن الرخاء والازدهار والأمن تساهم في الحد من العصبية، بينما الحروب والخوف والفقر والبطالة عزّزت من العصبية"، وزاد عليها أيضاً قوله بتسخير هذه النزعة العصبية "الصراعات السياسية لا بد لها من نزعة قبلية أو دينية، لكي يحفز قادتها أتباعهم على القتال والموت، فيتخيلون أنهم يموتون من أجلها". ولو أحصينا عدد من ماتوا في هذه الصراعات بدوافع إيديولوجية وعصبية، لعرفنا حجم ماضويتنا، وبعدنا عن العصر ومفاهيمه عن الدولة والمواطنة، وأن ما سمي مشروع نهضة يُقال عنه إنه أجهض، لم يكن أكثر من محاولاتٍ غريرةٍ تحبو فوق أشواك الماضي، فنزفت وماتت، وأن معظم نضالنا كان في محاربة طواحين هواء، لم نكسب من نزالها غير فقدان اليقين ونزف العمر، بينما كان النكوص يمشي بنا باتجاه قبيلياتنا المعوّقة وهويات تجيد العنف والقتل والفتنة والتفرقة.
لم يعد خافياً نزوع بعض الجماعات في أماكن سيطرتها إلى المطالبة بالانفصال عن الدولة
حياة السوريين صارت، ليس فقط في الدرك الأخير من كل شيء، بل صارت مخجلةً مخزيةً بقدر ما هي قاصرة وعاجزة وبارعة في توليد العنف والثأرية، وانتشار الفساد يدفع عامة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش، وبداية لشرخ يؤدي إلى انهيار الدولة، كما قال، والفساد كان مقدّمة كبيرة وواسعة لما آلت إليه الأمور، لكنه استشرى أكثر في ظل الحرب، ففقد الناس البصر والبصيرة، وزاد في هذا الفقدان التضليل الذي مورس بحرفيةٍ عاليةٍ، وكان منذ البداية أحد أهم مرتكزات الحرب وأدواتها. و"عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والأفاكون والمتفيقهون والانتهازيون، وتعمّ الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوّش الفكر".
هل يمكن الحديث عن دولة في سورية اليوم؟ يبدو الأمر فائق الصعوبة، وهو إشكالية ليس من السهل الخوض فيها، فكل المفاهيم تبدو أنها محققة بطريقةٍ لا نمطية أو موصوفة. ما زالت هناك مؤسسات دولة في مناطق النظام، ولو أنها لا تعمل بالطريقة المرجوّة، أو لا تؤدي الغرض المرجو منها بأبسط شكل له.
حياة السوريين صارت، ليس فقط في الدرك الأخير من كل شيء، بل صارت مخجلةً مخزية
يمكن القول إن هناك ضعف سلطة الحكومة وعجزها عن بسط سيطرتها على جميع أقاليمها، ولم يعد خافياً نزوع بعض الجماعات في أماكن سيطرتها إلى المطالبة بالانفصال عن الدولة، وعزمها على إقامة كيان سياسي مستقل. وبعد عشر سنوات من الحرب في سورية، لا بد من انهيارات اقتصادية، فطبيعة الحروب من هذا النوع أنها مكلفة ومعظم الموارد تصرف على العمليات القتالية، وهي حروبٌ استنزافيةٌ لا يمكن معها إعادة إعمار المدن المهدمة، ولا البنية التحتية المتهاوية والمدمرة، كذلك لا يمكن إعادة عمران المجتمع.
لا عجب في ما سلف، فجميعه صور من واقع وصفها ابن خلدون قبل ستة قرون، لكن العجب أن يأتي الخبر "صور من كلفة الحياة في سوريا" في موقع "روسيا اليوم"، وكأن روسيا تكتشف لغزاً لم تعرفه البشرية في سورية، وكأنها لا تتحمّل ذرة من المسؤولية تجاه الشعب السوري ومآلات وطنه وحياته، بل وكأنه إنجاز حقوقي بتسليطها الضوء على هذه الحياة "المكلفة" التي يبدو أنها كلّفتها كثيراً كمشروع استثماري طويل الأمد. أنا السورية أشعر بالإهانة من هذا الخبر.