"رغيف العيش" وسؤال عن دور الدولة وأزمة الاقتصاد
يعاود مخطط رفع سعر الخبز في مصر فتح النقاش بشأن الانحيازات الاجتماعية للسلطة، وسؤال عن دور الدولة، وما تجسّده سياساتها الاقتصادية، التي ظهرت خلال تطبيق ما يسمّونه "الإصلاح الاقتصادي" منذ 2016، الذي ارتكز، أساساً، على معالجة عجز الموازنة، عبر زيادة الإيرادات من عوائد الضرائب ورفع أسعار الخدمات، مع تخفيض النفقات المتعلقة بالدعم. وقد خلفت هذه الإجراءات أعباءً ثقيلة، خصوصاً على الطبقات الفقيرة وشرائح وسطى، تمثلت بارتفاع مستوى الأسعار والخدمات وزيادة الضرائب. وعلى الرغم من قسوتها، وهي الحقيقة التي لا تنكرها السلطة، لم تُحسن مستويات معيشة المواطنين، كما وعدت الحكومات المتعاقبة، أو ما بشّر به صندوق النقد الدولي، بل العكس ما جرى، تعمّق الخلل بين الأجور وتكاليف المعيشة أكثر مما مضى، وتجاوز ارتفاع أسعار بعض السلع والخدمات 400%، وهي النسبة نفسها التي تدرس الحكومة تطبيقها على رغيف الخبز.
من خلال إجراءات البرنامج الاقتصادي، استطاعت الحكومة المصرية تحقيق فائض أولى العام الماضي بـ 104 مليارات جنيه، لكن هذه النتيجة لم توقف سياسات القسوة الاقتصادية المتجاورة مع نمط حكم لا يسمح بالتنظيم وحرية التعبير، هكذا لتستمر سياسات القهر الاقتصادي جناحاً ثانياً للسلطوية، والثانية لا غنى عنها في تحقيق الأولى، وتمرير إجراءات رفع أسعار الخدمات والسلع تحت سطوة الخوف وغياب هيئات شعبية معبّرة عن الناس.
غلب على النقاش في مصر بشأن رفع سعر الخبز تجاهل جذور الأزمة الاقتصادية التي تنجم عنها البطالة والفقر
يبرّر المدافعون عن هذه الإجراءات موقفهم بشعاراتٍ عموميةٍ بشأن إصلاح الاقتصاد، وتعاطي الدواء المرّ، والحفاظ على الدولة، لكن الشعار الأخير، الحفاظ على الدولة، يكرّر للترهيب، ومع غموضٍ في مضمونه، أي دولة ونموذج تنموي يريد المصريون، وما الذي يريد أن يقنع به أصحاب الشعار الناس لتمرير إجراءات وسياسات قاسية، لن تُجملها شعارات دعائية وتبريرات غير مقنعة.
غلب على النقاش في مصر بشأن رفع سعر الخبز تجاهل جذور الأزمة الاقتصادية التي تنجم عنها البطالة والفقر، وتعجز معها الدولة عن إنجاز كفايةٍ في الإنتاج. وبدلاً من طرح أسئلة بشأن مراجعة دور الدولة ومسار السياسات الاقتصادية، تُطلَق الشكوى ويُزجَر المواطنون بوصفهم سبباً للأزمة، يلتهمون بنود الموازنة التي تعاني عجزاً. يصوّر هؤلاء أن الاقتصاد سينتعش، إذا ما قُلِّصَت بنود الدعم، في إيهام الناس بأن سبب أزمة الاقتصاد بنود الدعم، وليس ضعف الإنتاج واعتماد الخزانة العامة على الضرائب بشكل ضخم. وفي سياق النقاش، بشأن رغيف الخبز الذي يقلقهم انخفاض سعره، لا تجري مناقشة جدّية بشأن تعزيز الإنتاج الصناعي والزراعي وزيادته، بما فيه ضرورة التوسّع في زراعة القمح، التي تُعَدّ مصر الدولة الأولى في استيراده عالمياً، وحتى بعيداً عن جذور الأزمة الاقتصادية المتعلقة بنمط الاقتصاد الحالي، يُتجاهَل البحث عن بدائل لتخفيض الدعم، وإعادة توزيع الأعباء، وبنود الدعم، بما فيها دعم الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال، بما تحتويه من بنود دعم المصدّرين، غير الإعفاءات والمزايا الاقتصادية لرجال الأعمال، وسد أبواب الفساد.
قد تكون زيادة أسعار الخبز خطوةً يمكن تمريرها، لكن الإجراء، في حد ذاته، الذي يطاول الشرائح الأشد فقراً، تعبير عن قسوة ظاهرة
ما زال بعضهم يبرّر تجاور سياسات اقتصادية قاسية مع السلطوية، ويرى أن مصر تعبّر، تبني جمهورية جديدة، لكن ظلال الكباري (الجسور) والعاصمة الجديدة لا تخفي حقائق عن معاناة متجسّدة تروي تفاصيلها أحوال الناس، ومؤشّرات الفقر والتفاوت الطبقي، والبطالة في أوساط المتعلمين، وأمراض اجتماعية مقلقة، منها عنف ظاهر وجرائم مستجدّة على الأسرة المصرية. لم يسأل أصحاب الدعاية أنفسهم عن تكلفة سلة السلع الغذائية الأساسية، وما قدر الأعباء التي يمكن أن تضيفها حركة رفع الأسعار ومنها الخبز والغذاء، لأن هؤلاء، ببساطة، منفصلون عن واقع الناس ومعيشتهم ومعاناتهم الحياتية، ومهمتهم تبرير كل إجراء تتّخذه السلطة.
قد تكون زيادة أسعار الخبز خطوةً يمكن تمريرها، كما ارتفاعات للأسعار، شملت سلعاً وخدمات، لكن الإجراء، في حد ذاته، الذي يطاول الشرائح الأشد فقراً، تعبير عن قسوة ظاهرة. وبحسابات الاقتصاد وتكاليفه، لا يشكل قدر الدعم (40 مليار جنيه) مبلغاً ضخماً، إذا ما قورن في حفظ كرامة قطاع من المواطنين وحمايتهم من الجوع، غير أن هذا الدعم، في النهاية، مقتطع من ضرائب المصريين، الذي يقارب تريليون جنيه، وهو مقارنةً بالدعم الموجه إلى رؤوس الأموال أو بنود أخرى، ليس مبلغاً ضخماً، لكن إلغاءه يعبّر عن انفصام بين عملية اتخاذ القرار وواقع الفقراء الذي تتغنّى به الجمهورية الجديدة، ودالٌّ، في الوقت ذاته، على مسار تراجع أدوار الدولة الاجتماعية.
الحقيقة أن هناك من يرى أن دعم رغيف العيش عبء، وأن الأسعار منخفضة، ويجب زيادتها
مع هذا القرار وغيره من سلسلة قرارات مشابهة، تترك أعباءها الاجتماعية، ولا تحسّن أحوال الناس، تصبح تصورات بعضهم أو تصديقهم أن المسار الاقتصادي سيأتي بحياة كريمة مجرّد أمنيات، لا تستند إلى مؤشراتٍ تدعمها. أما سؤال الحفاظ على الدولة ودورها، فهو يحتاج إلى إعادة طرح من أصحابه، أي دولة يسعى إليها هؤلاء، وبأي حال يمكن أن يصدّق الناس الوعود بتحسين أوضاعهم عاماً بعد آخر، في ظل تراكمٍ للأعباء، وصل إلى محطةٍ رغيف العيش.
وفي النقاش الدائر بين مؤيدي القرار، بكل السبل، وبمداخل صحية واقتصادية ودينية، تبريرات لا تصدّق، وتحمل قدراً من استهانة بالآثار المترتبة عليه، ومنها زيادة عدد من يفتقدون الأمن الغذائي، رفع سعر الخبز، مع ما سبقه من تقليص أوجه دعم بعض السلع، مؤشّر دالّ على انسحاب الدولة من ادوارها الاجتماعية، ولا يعتدّ هنا بمبرّرات أن الدعم لا يصل إلى مستحقيه، فقاعدة بيانات الخبز المدعم، تُجدَّد باستمرار، ولها اشتراطاتٌ تربط بين الدعم والدخل، ويحذف منها سنوياً غير المستحقين. تبقى الحقيقة أن هناك من يرى أن دعم رغيف العيش عبء، وأن الأسعار منخفضة، ويجب زيادتها. هكذا يدار الأمر، وكأن الدولة شركة، من دون اكتراث بمفهوم أدوار الدولة ووظائفها، أو ما تأسّست عليه من مفهوم العقد الاجتماعي. وحتى لو أخذنا بهذا التصوّر، أن الدولة شركة، فإن للمنتجين والمساهمين في رأس مالها وأصحابها المصريين مراجعة نتائج وسياسات مجلس إدارتها والتعبير عن آمالهم.