"حدث ذات مرة في لبنان"
ليس يدري من قرأَ كتابَ الكاتب والمحلّل السياسيّ اللبنانيّ، حازم صاغيّة، الصادر حديثاً عن مؤسّسة دار الجديد في بيروت (265 ص)، "حَدَثَ ذاتَ مَرَّة في لُبنان"، من أين يُباشر تناولَه ولا كيف يفي حقَّ المقالاتِ الثريّة والمتنوّعة، المنشورة في فتراتٍ متباعدة، والمجموعة في أربعة أبواب: "ما هبّ ودبّ" و"أفكار مكروهة" و"يوم كانت صُحُف" و"ممّا عشتُه وعرفتُه" بيد أنّ المؤكّد أنّ القارئ سيجد في مطالعته أيّما متعة، وذلك لتميّزه ومغايرته، وأيضاً لمقاربته المختلفة في تظهير الخفيّ، وكسْر الأيقونات، وتناول أفكارٍ ومسلّماتٍ وأحداثٍ وعاداتٍ ومسالكَ ثقافية وسياسية واجتماعية ومعيشية، قلّما جرى التنبّهُ إليها أو تقديمها في قراءة مُحدثة وعميقة.
والعنوان الذي يوحي أنّ المقالات تختصّ بلبنان وحده، سوف يُصوّبه تقديمٌ وجيزٌ جاء فيه: "لم 'يحدُث' في لبنان كلُّ ما حدث في هذا الكتاب، لكنّ لبنان كان يتسّع لكلّ تلك الأحداث، يتسّع لمعرفتها، لمناقشتها، وإلى حدّ بعيد لعيشها. الأمر اختلف اليوم"، فحرب فيتنام، وأحداث عام 1968 عالمياً، والناصريّة، والحرب الباردة، والسياسة العالمية، والسِّلم الذي ليس من أفكارنا أو من أولوياتنا، والنشأة الملتوية للوطنيات العربية، ومقولة الزمن العربي الرديء المضلِّلة، وثنائية اليسار واليمين التبسيطية... إلخ، كلّها موضوعاتٌ يعمد صاغيّة إلى تفكيكها ببراعةٍ وسلاسةٍ تخاطبان قارئاً عربياً (وأجنبياً)، بقدر ما تخاطب لبنانيّاً، وإنْ يكن ذِكْرُ لبنان في العنوان هو أشبه بتوجيه مرثيّةٍ لما كان يمثّلُه البلدُ الصَّغيرُ من مشروعٍ مغاير ومن تنوّعٍ وانفتاح.
في الشأن اللبناني، يركّز صاغيّة (1951) على الستّينيّات، وهي حقبة مراهقته الأولى وشبابه، متسائلاً: "هل نحن شعبٌ من الزّجالين؟" خالِصاً إلى أنّ النشيد الوطنيّ اللبنانيّ "جاء زَجَلاً مكتوباً بالفُصحى" على يد الشّاعر رشيد نخلة الذي هو زجّال، وأحد "أبرز زجّالَين عرفهما جبلُ لبنان في النصف الأول من القرن العشرين". مع اشتعال الحرب الأهلية، وبعدما "كانت الطوائف قد قويت على الدولة وعلى إذاعتها وتلفزيونها"، أصبحت لكلّ طائفةٍ فرقة زجليّة "تنطق بلسانٍ أطول من ألسنتها". أيضًا، يعرّج صاغيّة على حضور رياضة المصارَعة في الحياة اللّبنانية، وهي برأيه "زجلٌ يُخاض بالأجسام"، وقد تمثّلت ذروةُ الكيتش بأسطورة المصارِعَيْن "الأخوان سعادة" اللذيْن كانا يقيمان مُبارياتٍ توصَف بالعالمية في المدينة الرياضية، ينقلها التلفزيونُ، وتستثير وطنية اللّبنانيين تأييداً وهتافاً وتصفيقاً. هنا أيضاً، لا بد للطائفية من وضع يدها، فالمصارعون، في أغلبيّتهم، مسيحيوّن من الجبل، من أمثال إدمون الزعنّي وأسعد سرور ووديع أيوب وإيلي بجاني وجورج ديراني ونجيب نهرا، في حين اختصّ المسلمون من جانبهم برياضة كَمَال الأجسام ورفْع الأثقال.
وممّا يلفت في المقالات متنوّعة الموضوعات، تلك التي حملت عنوان "في مديح السندويش" الذي بدّل العادات والطقوس المرافقة للاجتماع حول مائدة الأسرة، إذ إنّ طالبه "لا يكون يعرف أنّه يتمرّد، وأنّه، في حدودٍ ما، يُمارس تحرّرَه الأول من سُلطة العائلة ونظامها الأبويّ". فهو، أي السندويش، ليس محكومًا بمواعيد تناول الطعام، ومن الممكن أكله وقوفا، وهو لا ينسب لنفسه مركزيةً أو تقديسًا، ويُحلّ آكلَه من كلّ التزامٍ وتبعاتٍ وقيود. "إنّ انكماش البيت وضُمور العائلة وتعاظُم التَمَدْيُن والانسلاخ لا بد أن توسّع ذلك الهامش الذي يُقيم فيه السندويش، والذي يوفّر للمراهقة فرصتَها كي تُنجز ثورةً لا يُخالِطها الدمّ".
وبالقدْر نفسه من النّباهة والألمعيّة، يكتب حازم صاغيّة "بأسمائنا نقاتل..."، عن علاقة الأسماء بالتقلّبات السياسية والتحوّلات العقائدية وانتشار التيّارات الدينيّة، فالمناخ الذي ولّده الاستقرار ُالنسبيّ للدولة اللبنانية بعد الاستقلال على سبيل المثال، مصحوبا بعروبةٍ ثقافية لا سياسية، جعل الآباء في الشقّ المسيحيّ يميلون إلى منح أبنائهم أسماء عربية مُعَلْمَنة، في حين نشرت الناصريّة أسماء جمال وناصر وخالد (كنيته أبو خالد) في العالم العربي. في المقابل، طرحتِ الأحزابُ الشيوعيّة والقوميّة أسماء تتماشى والجهاد والكفاح والنّضال، في وقتٍ استلهم البعثيّون والناصريّون أسماء من الجاهلية الأولى، مثل عروة وأوس ولبنى، واستخرج القوميّون السوريّون من الماضي الأقدم أسماء هنيبعل وأدونيس وأليسار وسرجون...
"حدث ذات مرّة في لبنان" أكثر من هذا بكثير. إنّه متعةٌ خالِصة، حيث الكتابة فطنة ومعرفة.