"جزيرة غمام" .. الإبداع مكتملاً
تجتمع في مسلسل "جزيرة غمام" كل عناصر النجاح المطلوبة في العمل الدرامي، ابتداء من أغنية الإشارة البديعة التي أدّاها علي الحجار بصوته القوي العميق، معيداً إلى ذاكرتنا رائعته في شارة "المال والبنون" (قالوا زمان). وقد سجّل المسلسل أعلى نسب مشاهدة في السباق الرمضاني، وحاز استحسان النقاد والجمهور الذي وجد في العمل عودة إلى زمن درامي جاد وجميل، طال الشوق إليه. وهو من تأليف الكاتب البارع عبد الرحيم كمال، الذي قدّم نصاً مكتوباً بعناية فائقة في رسم الشخصيات، وفي مسار الأحداث المترابطة الممسوكة بحرفية عالية، ومن إخراج المتميز حسين المنباوي، وقد نجح بشكل ملحوظ في ترجمة النص بصرياً، من خلال الاعتناء بأدق التفاصيل، إلى تحفة درامية تحترم ذائقة المتلقي، وتحفّز مخيلته، وتوقظ فيه الجانب الروحاني العميق، وتؤكد على قيم الخير والمحبّة والتسامح والجمال. وتألق في العمل ممثلون مبدعون في أداء أدوارهم، من أبرزهم أحمد أمين وطارق لطفي ومي عز الدين ورياض الخولي ووفاء عامر وغيرهم.
يعود زمن "جزيرة غمام" إلى حقبة في المرحلة الخديوية في مصر. وتدور الأحداث، ذات الطابع الفانتازي، في جزيرة نائية، يعمل أهلها البسطاء في صيد السمك، ويسود مجتمعهم الصغير الحب والسلام والتضامن، يحتكمون في شؤون دينهم ودنياهم إلى شيخ صوفي، يحظى بمحبة سكان الجزيرة وتقديرهم، غير أن الشيخ يظهر في الحلقة الأولى وهو على فراش الموت، يوصي تلاميذه الثلاثة الذين ربّاهم كأبنائه، ويعهد إلى كل منهم بمهمة معينة، أصغرهم عرفات، وهو الشخصية المحورية في العمل، أدّاها باقتدار كبير الفنان أحمد أمين. يحزن أهل الجزيرة لرحيل شيخهم الجليل، وينتابهم القلق والشك في قدرة تلاميذه على ملء الفراغ الذي حلّ برحيله. وفي الوقت ذاته، يكتشف الصيادون جثة صبية فقيرة مقتولة وملقاة في البحر، ما ينزع عن سكان الجزيرة إحساسهم بالأمان. وفي تصعيد مبكّر للأحداث، تصل إلى الجزيرة جماعة غريبة من الغجر، عرفوا في الجزيرة بـ"طرح البحر"، يقودها رجل جشع وشرير، يطمح إلى الاستيلاء على الجزيرة، من خلال إغواء أهلها، وتزيين المفاسد في نفوسهم من خمر وقمار ودعارة. وقد أبدع الممثل القدير طارق لطفي في تجسيد ملامح هذه الشخصية الشيطانية التي تمثل الشر المطلق في سعيها إلى الخراب. يحتدم الصراع بينه وبين عرفات، الشاب الصوفي الزاهد، المتأمل في الحياة والوجود الباحث عن الحقيقة، المحرّض على المحبة قيمة كبرى في الحياة.
تفاصيل جمالية كثيرة في المسلسل تستدعي التوقف. يجد المتلقي نفسه منحازاً بالكامل إلى عرفات الذي يمثل الخير المطلق، من دون إغفال لحظات الضعف والتردّد، والخطأ أحياناً، ما ينأى بالنص عن التقسيم الكلاسيكي الساذج لأدوار الشخصيات، فثمّة سحر وغموض جذّاب يكتنف شخصية عرفات الذي يتقارب إنسانياً مع "العايقة" التي تمثل الغواية، ما يضع سلوكه في دائرة الشك أمام سكان الجزيرة الذين ينبذونه في مرحلة ما قبل أن تتكشف الحقائق. وينجح عرفات في تخليص عايقة من قوة الشر التي أحاطت بها منذ طفولتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى موهبة هذه الممثلة المبدعة التي تقمّصت شخصية العايقة الغانية الحزينة المقهورة في تحولاتها وتأرجحها بين قوى الخير والشر برشاقةٍ وقدرة فائقة على الإقناع.
تبلغ الأحداث ذروتها في استعارة ذكية من الكاتب لقصة الطوفان في النصوص الدينية، حين داهمت سكان الجزيرة عاصفة شديدة، كانت حدّاً فاصلاً وحسماً للصراع بين زعيم الغجر وعرفات الذي أعد ملاذاً آمناً بين جبلين، احتمى فيه أهل الخير فيما ابتلعت كل من تبعوا غواية الشر، لتعود الجزيرة إلى سكينتها وسلامها القديم، غير أن الكاتب رفض رشوة المتلقي وتضليله، فأنهى المسلسل بعودة لطفي وأعوانه، ليؤكد حتمية استمرار الصراع بين الخير والشر، استكمالاً لقصة الوجود منذ قابيل وهابيل.
تحية لصنّاع "جزيرة غمام"، وقد أبدعوا في تقديم هذا المسلسل الممتع، وهو يستحقّ، لفرط ثرائه، المشاهدة أكثر من مرة.