"امرأة، حياة، حرية"
أنا في العشرينيات من عمري. العالمُ كله لا يسعني، فكيف لي أن أحيا في قفصٍ من زجاج؟ أريد أن أفرد أغصاني، أن أرسل جذوري، أن أتنفّس وسْع رئتيّ. عيناي، كلما أغمضوهما، حلمتا أكثر، ورأتا أعمق وأبعد. لا شيء في العالم يستطيع أن يحدّني. أنا سيلٌ جارف، بركانٌ هادر، طاقة متفجّرة لا يمكن لأي جهةٍ، قانون، سُلطة، أن تمنع نموّي.
لقد قتلوا مهسا أميني بشكل مجانيّ ودونما سبب. قتلوها تعنّتا وظلما. ضربوها على رأسها إحدى عشرة ضربة، حتى غابت عن الوعي، حتى سكت دماغُها بعد نزيفٍ حاد. هذا ما قاله تقرير الطبيب المناوب حين أُدخلت المستشفى، التقرير الذي امّحى وتبخّر ليحلّ مكانه تقريرٌ مفبرك لطبيبٍ شرعي قال إن مهسا ماتت جرّاء سكتة قلبية. مهسا الجميلة، ابنة الثانية والعشرين، التي كانت في حديقة عامّة مع أخيها، مهسا التي لم تأت سوءا سوى أن غطاء رأسها، بحسب ادّعاءات وحوش دوريات الإرشاد، وبرابرة شرطة الأخلاق، لم يكن يغطّي شعرّها بالكامل. لذا استحقّت عقوبة الموت.
يأمروننا بتغطية رؤوسنا باسم الدّين، لكنهم في الحقيقة يريدون تغطية عقولنا، محوَها، وحتى نزعها من رؤوسنا لو استطاعوا. منذ انتخاب إبراهيم رئيسي العام الماضي، والمحافظون المتشدّدون مصرّون على إرجاعنا إلى البيوت، بهدف تحويلنا آلات إنجابٍ وأغراض إمتاع للأزواج، لا غير. هم لا يرون أننا الأغلبية في الجامعات، وأن عددنا يفوق عدد الطلاب الذكور. ومع ذلك، يتّبعون سياسات تمييز جندري، ويقفلون أمامنا أسواق العمل، ويسعون إلى إعادة مجتمعنا العصريّ، بكل معنى الكلمة، إلى العصور الوسطى. إخوتنا لا يقلّون عنا تعرّضا للعسف والاضطهاد، لكننا وقود بيت النار الذي يشعلونه لحرق بلادنا.
أجل، لقد قضت مهسا الجميلة ضربا، دُهست الفراشة التي لم تأتِ سوءا وما تحدّتْ أحدًا وكانت ببساطة تحيا تحت سقف قوانينهم المجحفة. ضُربَتْ بوحشية وحتى الموت لأنها فتاة، ولأنها كرديّة، ولأنه نظام قمعيّ قائم على التمييز الإثني والاجتماعي والاقتصادي. نحن نعيش في نظام إفقار وقمع وحصار يتلطّى خلف الدين ويحكُم باسمه. نحن، أبناء إيران وأهلها، ما عدنا نريد هذا النظام، وما عدنا نرهبه. جيلنا ليست لديه ذاكرة الحرب الموجعة التي لدى الأجيال التي سبقتنا لأنه لم يعشها. هذا يجعلنا ربما أكثر خفّة، كوننا نشأنا في عالم مختلف. ونحن، بنات إيران ونساءها، ما عدنا نقبل بتشييئنا وتغييبنا وقمعنا وقتلنا.
قُتلت مهسا الرقيقة ظلما وتعنّتا، فنزلتُ ورفيقاتي إلى الشارع وخلعنا حجابّ الخوف عن رؤوسنا. أطلقنا شعورنا في الهواء وغنّينا ورقصنا لأننا نريد الحياة لا أكثر. لا نريد القمع ولا الخوف ولا الظلم. نريد الحياة التي تليق بنا، وأجل، الحياة تليق بنا. ونريد الحرية، لأن الحرية تليق بنا. ونعم الحرية تليق بنا. "امرأة، حياة، حرية"، هذا هو هتافنا، شعارنا. ولتعلموا أن ما نحرقه اليوم وننتفض ضده ليس حجابا إسلاميا، بل هو نظام ديني قمعيّ قائم برمته على سياسة الفصل والتمييز ضد النساء، حيث إن الحجاب الإلزامي هو التجسيد والرمز.
ارقدي هانئة، مهسا، واطمئنّي، يا أختاه، لقد غيّر الخوفُ خندقَه ولم نعد نحن الخائفات، بل هم. لقد قطعوا عنّا الإنترنت، منعونا من التواصل، وها هم الآن يضعوننا في حالة ترقّب، فما الذي ينتظرون ليهجموا علينا؟ متى ستأتي المذبحة ومتى يبدأ إطلاقُ النار ليسقط القتلى بالمئات؟ متى سيُفلتون فرقَ الإعدام المسعورة وتبلغنا المجزرة؟ هم الخائفون الآن، مهسا، صدّقيني، لأنهم بقطْعهم الإنترنت، إنما يُسكتون ضجيجَنا الهادر، هتافاتنا وموسيقانا، ويقطّعون الجسورَ التي تصلنا بجماعاتنا ورفاقنا في المدن الأخرى. هل ما زالوا مثلنا ينتفضون؟ هل بدأت المجازر عندهم؟ ماذا يفعلون؟
إنه هدوء القتَلة، مهسا. أما نحن، فسنبقى نتلذّذ بانتصارنا على الخوف، حتى الرمق الأخير. سنرفع السكاكين والمقصّات لنجزّ شعورنا الطويلة المنفلتة في الهواء، كي يعلموا أن الأوان قد فات وأننا، بعبورنا الخطوط الحمر وإعلان أنفسنا ذواتا، لا أغراض إمتاع، نكون قد كسرنا بعض فقرات العمود الفقريّ للنظام.