"البوتينية" أيديولوجيا روسيا الجديدة

25 اغسطس 2022
+ الخط -

غالباً ما تلعب الأيديولوجيا ونظريات المفكرين والفلاسفة دوراً مهمّاً في تبرير السياسة في دول استبدادية. بشكلٍ خاص، يبدو هذا المفهوم أكثر وضوحاً وتجسّداً في روسيا السوفييتية، عندما لعبت الأيديولوجيا الماركسية "اللينينية"، ومن ثم "الستالينية"، دوراً مهمّاً في تبرير السياسة الداخلية والخارجية للدولة تحت شعارات نشر الاشتراكية في العالم والأممية. لكنّ أولوية الوقائع على النصوص الأيديولوجية هي الغالبة في النهاية، فقد انهار الاتحاد السوفييتي، وانهارت معه الأيديولوجيا المعتمدة من السلطات المتوالية، إلى أن جاء بوتين إلى سدّة الرئاسة عام 2000، ليستثمر حالة التذمّر الشعبي مما وصلت إليه أمور البلاد، من انحدار على جميع الأصعدة، وخصوصاً العسكرية والاقتصادية، ليعزف على وتر روسيا العظمى الساعية وراء مجدها المنصرم، سواء الشيوعي أو القيصري، ليكون بداية لتبلور مرحلة جديدة من الأيديولوجيا الروسية تحت مسمّى "البوتينية" معالمها الأساسية الشعور بالقومية المترافق مع عداء الغرب، وتركيبة من الانعزالية والتوّسعية العسكرية، واضطهاد المعارضين.

ارتبطت أيديولوجيا الدولة الروسية الجديدة، لدى كثيرين، بالرئيس الروسي بوتين، وكما كان في أميركا منظّرون ومفكرون يدافعون عن النموذج السياسي والفكري الغربي، ويبشرون بديمومته، من أمثال فرانسيس فوكاياما وصموئيل هنتنغتون، كان لروسيا أيضاً مفكرون وكُتّاب يلعبون دور فوكاياما وهنتنغتون، ويبشّرون بنموذجهم السياسي الذي بدأ يتبلور مع نهاية ولاية بوتين الثانية التي شهدت تبنّي سياسات توّسعية في الفضاء الروسي، بدأت بحرب جورجيا عام 2008 والاعتراف بانفصال جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عنها، مروراً بغزو شبه جزيرة القرم عام 2014، ومن ثم التدخل العسكري المباشر في سورية عام 2015، وصولاً إلى غزو أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، والذي إن نجح فيه، من المتوقع أن يستمر ليطاول دول البلطيق وغيرها من دول أوروبا الشرقية.

يكتشف المتأمل في السياسة الروسية أنّ أفقها يتجاوز إحياء المشروع السوفييتي

وراء هذه الأيديولوجيا الجديدة لروسيا، يقف منظّران وفيلسوفان معاصران، هما ألكسندر دوغين، الذي يُشبّهه بعضهم في علاقته ببوتين بالملهم للقيصر الروسي نيقولاي الثاني في أوائل القرن العشرين، راسبوتين. وكذلك المساعد الرئاسي الروسي، فلاديسلاف سوركوف، الذي يُعتبر كبير منظّري الكرملين وصاحب مصطلح "البوتينية". وهنا يُقال، إذا ما أردت أن تفهم روح العصر التي تسود روسيا اليوم عليك التعرّف أكثر على هذين المنظّرين والفيلسوفين، فدوغين الذي يدعو منذ سنين طويلة إلى أيديولوجيا "أوراسية" في روسيا، وألّف كتباً عديدة تناولت هذا الأمر، أهمّها "النظرية السياسية الرابعة" و"حرب القارّات"، شرح فيها نظريته "الأوراسية الرابعة"، بديلاً عن الليبرالية والشيوعية والفاشية، عرّف الأيديولوجيا الروسية الجديدة المسمّاة "البوتينية" بأنّها مأسسة نهج بوتين، وليس فقط الولاء الشخصي له، داعياً إلى ترسيخ "البوتينية" مؤسساتياً أيديولوجيا رسميّة في روسيا، فهو يرى الأيديولوجيا الروسية الجديدة تشكّل عنصراً أساسياً في بقاء الدولة الروسية، خصوصاً أنّ بنية السلطة الروسية الرأسية تفتقر إلى المرونة اللازمة لتحفيز دينامية اقتصادية لا تقلّ كفاءة عن نظيرتها في الغرب، في حين أنّ سوركوف الذي كتب مقالاتٍ عديدةً استخدم فيها مصطلح "البوتينية"، أشار فيها إلى عدم حاجة الروس إلى الديمقراطية الغربية، لأنّ بوتين شيّد نظاماً يفهم أبناء شعبه واحتياجاتهم وأغراضهم على نحو أفضل من فهمهم أنفسهم، فقد رأى أنّ "البوتينية" تُمثّل اختراقاً سياسياً عالمياً وطريقة فعالة للحكم، ووصفها بأنّها أيديولوجيا فاعلة في الحياة اليومية، مع كلّ إبداعاتها الاجتماعية وتناقضاتها المثمرة، وهو مثل دوغين يرى أنّ نموذج الدولة "البوتينية" النموذج الذي يجب تصديره باعتباره الأصلح.

وبالتالي، روسيا من وجهة نظر كلّ من دوغين وسوركوف مثل الاتحاد السوفييتي، يجب أن تكون "أيديوقراطية" (نظام حكم يقوم على الأيديولوجيا) تحكمها أقلية مقدّسة تدفع البلاد نحو تحقيق هدفٍ ما غير معروف بشكل كامل إلّا لهم، وهذا ما تُمثله "البوتينية" في الوقت الحاضر.

ارتبطت أيديولوجيا الدولة الروسية الجديدة، لدى كثيرين، بالرئيس الروسي بوتين

يكتشف المتأمل اليوم في السياسة الروسية أن أفقها يتجاوز إحياء المشروع السوفييتي، نحو صياغة هوية جديدة للدولة الروسية الحديثة تبشّر بعودة أيديولوجيا روسية جديدة تتنافس مع الأيديولوجيا الأميركية في سيادة العالم تحت عنوان كبير اسمه "البوتينية" تأخذ في الحسبان المصالح الاستراتيجية والأمن القومي الروسي، وهذا يتضح بعد مرور 22 عاماً من حكم بوتين روسيا، والذي يُتوّقع له الاستمرار حتى عام 2036 بعد تعديل الدستور الروسي، والذي يصرّ على فرض نظام سلطوي يفرض من خلاله تصوّره للعالم وتصوّره للسلطة في الداخل الروسي من خلال إطلاق يد الرئيس للحفاظ على نفوذه وحماية الهيكل الداخلي لنظام الحكم. وفي الخارج الذي يمارس فيه سياسة توسّعية أكدها في الشيشان وجورجيا وسورية وأوكرانيا، ومن المتوقع في حال نجاح بوتين في حربه الحالية في أوكرانيا أن تتوسّع لتشمل دولا في البلطيق وأوروبا الشرقية.