"الاختيار" بين التزييف والحق في معرفة الحقيقة
كان المشير حسين طنطاوي (وزير الدفاع) والفريق سامي عنان (رئيس الأركان) يسيران بمفردهما إلى خارج البوابة الرئيسية الداخلية لقصر الاتحادية (في القاهرة)، بنظرات زائغة وخطوات مرتبكة، عصر يوم 12 أغسطس/ آب 2012، تحت تأثير الصدمة، بعد إعفائهما من قيادة الجيش. أعطى ضابط لهما التحية بشكل كوميدي! إذ كان تحت تأثير الصدمة هو أيضاً، ردّا عليه بالمثل، من دون أن ينظرا إلى وجهه: يقول شاهد عيان... كان الوضع، برأي الضابط الشهير، مروّعاً: لقد أطاحهما بكلمة واحدة.
ما حدث ينافي تماماً ما ذكره مسلسل "الاختيار 3" الذي حاول فرض الخيال على أنّه الحقيقة، والأكاذيب كأنّها الواقع. الأمر الذي يذكّر بأنّ طلاب الإعلام يدرسون، ابتداءً، الفرق بين الخبر ومواد الرأي. الخبر حدثٌ وقع بالفعل، مواد الرأي تتباين، والأوْلى أن تُطرح خلالها كلّ وجهات النظر المتاحة، وعلى القارئ أو المشاهد أن يتبنّى ما يعَنّ له... في النظم القمعية والديكتاتورية لا رأي ولا اختيار، سُتجبر، أنت القارئ أو المشاهد، على القبول بما يرونه حقيقة واحدة مسلّمة لا شريك لها.
لم يجرؤ المحامي نبيل أبو شيخة، بلسان الحال أو المقال، أن يوجّه نقداً للرئيس عبد الفتاح السيسي، لكنّه سخر من الأداء الهزلي للممثل ياسر جلال الذي يؤدّي دور الرئيس، فجرى اعتقاله، وحبسه على ذمة القضية رقم 93 لسنة 2022 حصر أمن دولة عليا، بتهم الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة. ربما تستطيع، الآن، أن تعيب في كلّ ما هو مقدّس، لكنّ "الاختيار" محصّن، والممثل الذي يؤدّي دور السيسي فيه، ياسر جلال، كذلك بالتبعية! فالفرعونية العائدة، هيبتها من هيبة الدولة، التي جرت استعادتها بعشرات المذابح والمجازر وآلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين لما يقارب العقد، وتأصيل الخوف وبث الرعب وتقنينه.
الرئيس القائد الملهم الفتاح العليم القائد الطبيب، بات خبير دراما، ولم يعد يتبقى له إلّا مؤلّف على شاكلة "الكتاب الأخضر" ليصبح مزيجاً من كلّ ديكتاتوريات المنطقة
يناقض مسلسل الاختيار اسمه، يمثل رؤية سلطة انقلاب 2013، لما جرى وقتئذ وفقط. بدأت فكرته بمقارنة مضلّلة عقدها السيسي فى دروس (ومحاضرات) غسيل الأدمغة بين ضابطي الصاعقة أحمد المنسي، وهشام عشماوي، فالمنسي (ابن النظام) كان يصلي ومتديّناً وملتزماً، كما حاول السيسي أن يرسم صورة نفسه أيضاً، على عكس الحقيقة فى الحالتين، بينما عشماوي فى تلك الرواية يتجسّس على زملائه!
طلب السيسي أن تصاغ رؤيته في مسلسل درامي جُيّش له الكُتاب والممثلون ليخرج إنتاجاً ضخماً متهافتاً، يخلط بين الدراما والمواد الوثائقية المسرّبة التي صورتها أجهزة المخابرات خلسة في جلسات الاستماع مع القوى السياسية، في أكثر المناطق الأمنية حساسية، بعد الثورة... ولا تناقش هذه السطور ما قيل في التسريبات، لكنّ التصوير يقدح فيمن قاموا به، ويقطع خطوط الثقة، مع الجميع مستقبلاً، فكيف يثق أحد بنظام لا أخلاقي يصور خلسةً ويقتطع الكلمات ويُقحمها في سياقات مضللة وزائفة، ويعتقل ويقطع ألسنة من يرفض أو يعترض، أو حتى يبدى رأيه، في موضوعات اجتماعية أقلّ زخماً مثلما فعل مع ظرفاء الغلابة أو فرقة البوابين الأربعة.
بنى الرئيس أعمدة أساطيره التي يحاول أن يضفيها على شخصيته، غير المتزنة، على المصداقية، لكنّه يدمن الكذب. لم يقل كلمة واحدة صادقة منذ عرفه المصريون، لا في السياسة ولا الاقتصاد، وتلاعب بالرئيس الذي اختاره بناء على كذبة كبيرة وعيّنه وزيراً للدفاع، ودائماً يقسم بالله، على أنّه صادق وشريف، فيما تشير ممارساته إلى النقيض، ولدى أعضاء الفريق الرئاسي شواهد وأسرارٌ كثيرة، لكن الخوف على الأسر والعائلات التي في الأسر في قاهرة المعز تحول بين الحقيقة والسرد.
رسائل سياسية فجّة ودعائية ورخيصة يجري تمريرها مراراً ضد طرفٍ انتهى واقعياً بين المقتلة الكبيرة في المجازر والسجون، على حساب شروط الدراما، فالرئيس القائد الملهم الفتاح العليم القائد الطبيب، بات خبير دراما، ولم يعد يتبقى له إلّا مؤلّف على شاكلة "الكتاب الأخضر" ليصبح مزيجاً من كلّ ديكتاتوريات المنطقة في تاريخيها القديم والحديث.
الحق في معرفة الحقيقة، في المجتمعات التي تتبنّى تصورات حقوق الإنسان، هو أساس العدالة
لم يخفِ السيسي، مع بدايات ظهوره، الاهتمام بالملف الإعلامي، وحرصه على تكوين أذرع إعلامية، حتى في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، وساهمت هذه بفاعلية في عملية الخداع الإستراتيجي التي انتهت بإطاحة مرسي. وجرى تقنين الأذرع الإعلامية هذه لاحقاً ومدّها بإمكانات الدولة للسيطرة على الرأي العام ببروباغندا تطمس الحقيقة. وهنا يمكن القول إنّ الإخوان المسلمين، الذين شُيطنوا في السابق، ربما اختفوا، لكنّ الأساطير ظلت تُنسج عنهم، زوراً وبهتاناً، لشغل الجماهير المسكينة عن قضاياهم الحياتية وأزماتهم المعيشية، والارتداد بهم إلى الماضي، كلما حاولوا استشراف المستقبل أو الصراخ من معاناة الحاضر، ولتمرير إنجازات نظام الانقلاب في عالم الخيال، طالما فشل في تحقيقها في الواقع.
ومن وقائع متصلة بهذا أنّ شركةً تدعى "تواصل" تابعة لشركة فالكون للحراسات الأمنية، استحوذت، في العام 2017، على شبكة قنوات الحياة، التي كان يمتلكها رجل الأعمال ورئيس حزب الوفد الأسبق، السيد البدوي، في صفقة بلغت قيمتها 1.4 مليار جنيه. ويوحي الاسم "تواصل" بأنّ الوصول إلى الجماهير يجري عبر رؤية إستراتيجية واعية وليس اعتباطاً... ولاحقاً تفجرت فضيحة توجيه الضباط الفنانين والممثلين، وبعد احتكار الصحف بشكل ناعم عبر أموال إمبراطور الحديد أحمد أبو هشيمة أو بالقوة المفرطة والتهديد كما حدث مع صلاح دياب و"المصري اليوم"، جرى احتكار الدراما والفنانين... حتى ضابط المخابرات ياسر سليم الذي سيطر على ملف الدراما اعتقل واختفى، كأنّ الأرض ابتلعته، بتاريخه وممارساته وصوره وحكاياته. واختفى الإنتاج الدرامي خارج دائرة المخابرات والرئيس، فالمسلسلات لم تجد قنوات للعرض، وجرى التضييق على التصوير والإخراج، ما تسبّب فى خسائر فادحة لصنّاعها.
... الحق في معرفة الحقيقة، في المجتمعات التي تتبنّى تصورات حقوق الإنسان، هو أساس العدالة، خصوصاً التي تتعامل مع تاريخ من الديكتاتورية والقمع وإرث العنف. يقول بابلو دي غريف، المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة وجبر الأضرار وضمان عدم تكرارها: "عادةً ما يُحرَم ضحايا الفظائع الشنيعة، مثل الإبادة الجماعية أو التعذيب المنهجي أو الإخفاء القسري أو القمع من الدولة، من الحق بمعرفة الحقيقة بشأن ما حدث لهم ولأحبائهم ولبلدهم… الكشف عن الحقيقة هو تأكيد لمكانة الضحايا بوصفهم أصحابَ حقوقٍ وأعضاءَ في المجتمع". ففي أعقابِ نزاعٍ مُدمّرٍ أو نظامٍ قمعيّ، تغدُو معرفة الحقيقة حولَ الماضي مجرّد خطوةٍ مهمّة نحو إحقاقِ العدالة، مقابل تعمّد الأنظمة القمعيّة تحريفَ التّاريخ والواقع والأحداث وإنكار ارتكابِ الفظائع، بغيةَ تبرير أنفسهم وتأجيج شعورِ فقدانِ الثّقة، وحتّى التحريض على حلقات جديدة من العنف، فالبحث المُجدي عن الحقيقة، هنا، يعزّز العدالةَ ويساعد على إنهاءِ مُعاناة الضحايا.
لم يخفِ السيسي، مع بدايات ظهوره، الاهتمام بالملف الإعلامي، وحرصه على تكوين أذرع إعلامية، حتى في عام مرسي
وفي الحالة المصرية، تجاوزت الردّة في توفير المعلومات ومحاولة طمس الحقيقة حتى تقرير لجنة تقصي الحقائق، المعيب والمسيس بحسب القوى السياسية المعارضة، وبينها أحزابٌ دعت إلى الخروج فى 30 يونيو/ حزيران 2013، فعدد قتلى فضّ الاعتصام في ميدان رابعة العدوية بحسب التقرير: 632 قتيلاً، منهم 624 مدنياً وثمانية من الشرطة. وأضاف التقرير أنّ قوات الأمن أنذرت المعتصمين قبل اقتحام الميدان بـ 25 دقيقة فقط، وهو ما اعتبره المجلس "وقتاً غير كافٍ لخروج جميع المعتصمين الراغبين في إخلاء الميدان" كما دان التقرير قوات الأمن في ما يتعلق بمنع دخول سيارات الإسعاف إلى الميدان لإسعاف المصابين، وعدم توفير طريق بديل للخروج الآمن. وطالب التقرير بفتح تحقيق قضائي مستقل في أحداث الفض، وإخضاع الشرطة للتدريب المستمر في فض التجمعات، ومكافحة الشغب، وتفعيل الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب... هل يمكن أن يتضمن مسلسل "الاختيار" إشارة إلى تلك النقاط، لإحداث بعض التوازن، في سرديته أم سيتجاهلها كما تم تجاهل النظام التقرير بأكمله وتوصياته؟
قد يرى بعضهم في محاولة الديكتاتور المذنب تبرئة نفسه وساحته وتبييض جرائمه وتبرير سلوكياته، وتغيير مقاييس جسده المعيبة بنظره، واستبدال حقيقة خضوعه على مدار أشهر لرئيسة المدني فى إطار عملية الخداع، بنظرات التحدّي الصارمة واللهجة الفتية، إرضاءً لنرجسيته المرضية، ربما يكون أمراً وارداً .. لكنّ الغريب أن يفشل الضحايا والمعارضون والجماعات، الذين يعانون الفراغ السياسي والمسؤوليات التنظيمية والإدارية، وإرهاق المنافسة والقراءة والاستعداد للمستقبل، على مدار عقد، في توثيق الحقيقة، على الرغم من الحياة الرغدة الآمنة في البلدان المتقدمة، وعلى ضفاف الشواطئ، رفقة المساعدات والدعم اللامحدود، خصوصاً في السنوات الأولى للخروج وإعلان النفير الذي انتهى إلى استسلام ورضوخ، وإلى شيخوخة ربما تكون أبدية.