تأثير حرب غزّة على الأوضاع الحقوقيّة في مصر
بدأت حرب إسرائيل العدوانية على قطاع غزّة، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فوجئ بالهجوم المباغت، الجيش الإسرائيلي، ودول الجوار، والمجتمع الدولي، ما أطلق العنان لكوابيس إسرائيل الأكثر رعباً، ومشاعر الخوف في المنطقة من تبعات حالة عدم الاستقرار.
لم يكن النظام في مصر، حينها، أحسن حالاً، إذ يعاني أزمةً اقتصاديةً خانقة، ومن سخط شعبي، بدأ يراوح مكانه ويخرُج إلى العلن، وكان على مشارف انتخاباتٍ رئاسية، واتهامات برشوة العضو البارز في مجلس الشيوخ بوب مينينديز وزوجته، فيما كان صندوق النقد الدولي يتعنّت في تسليم البلاد الشريحة الثانية من القرض الرابع، (المعروف بـ التسهيل الائتماني الممتدّ)، إلا بشرط تعويم جديد للجنيه المنهك. في تلك الأجواء، عبر مقاومون فلسطينيون إلى إسرائيل، لتقوم القيامة على بعد أمتار من الحدود الشرقية لمصر، وتُلقي عليها بظلالها المتداخلة وتأثيراتها المتعدّدة شديدة التعقيد، والتي حتما ستطاول الأوضاع السياسية المقيّدة على مدى عقد، والديمقراطية المؤمّمة، وحالة حقوق الإنسان المتردّية.
وكان صاحب هذه المطالعة قد عبّر بشأن قضايا حقوق الإنسان في مصر، خصوصا في سنوات حكم عبد الفتاح السيسي، عن حوار جدلي بين نظام السلطة والخارج، في غياب شبه تام لأصل القضية: المواطن المصري.
وللأسف الشديد، سيقلل السقوط المدوّي للمجتمع الدولي في مستنقع غزّة، من ضغوط الخارج على النظام، وهو ما كنتُ أعتقد أنه الوسيلة الوحيدة لإحداث تغيير في سياساته، لكنه، ربما، يمنح الرأي العام الداخلي في البلاد المعطّل، منذ سنوات، استفاقة صحّية، وإمكانية جديدة للاستطاعة، وفرصة مدعومة بتحقيق فصائل المقاومة الفلسطينية الصغيرة، صموداً أسطورياً وانتصاراً حربياً نوعياً على دولة بحجم إسرائيل على مدار عدّة أسابيع، فاستطلاعات الرأي العام، رغم التدمير الهائل للأبنية وعدد الضحايا الكبير، تكشف عن تنامي شعبية الصمود والمقاومة لدى أهالي قطاع غزّة والضفة الغربية، بشكل كبير، وهي المؤشّرات التي تنسحب على باقي المواطنين في دول الجوار، وسيكون لها نتائج عديدة. كما أن الحرب أوجدت ديناميةً جديدة في صفوف الرأي العام الغربي، بتأييد حشود متظاهريه، المطلق، للمظلومية التاريخية للفلسطينيين، وإعلان سُخطه على التمييز وتعدّد المعايير ووحشية الإبادة، وهو تطور غير مسبوق أيضاً.
منع النظام خروج المصريين في تظاهراتٍ مندّدة بالعدوان، لكنه، في الوقت ذاته، شدّد على منع أي محاولة تهجير للفلسطينيين
خلخلة المنطقة، ولو بالحرب، سينتُج عنها، غالباً، زيادة الوعي والنشاط السياسي والحوار العام الداخلي، بشأن قضايا كثيرة، قد تكون من أبرزها قيم التحوّل الديمقراطي وحقوق الإنسان. كما يمكن ترجمة هذه التأثيرات الدينامية إلى ضغوط على النظام المأزوم، لتبنّي مواقف أو سياسات معيّنة، في اتجاه تخفيف حدّة الاستبداد، وفتح المجال العام، واستعادة الحرّيات، لكن ذلك يظلّ رهنًا بأمد الحرب ونتائجها، إذ بات من الصعب تصوّر ما سيحدُث بعدها وما سيعقبها من مساراتٍ على الأرض وفي السياسة، فعالم ما بعد حرب 7 أكتوبر ليس عالم ما قبلها، ونتائجها ستكون بمثابة زلزال ضرب العالم بأسره.
قبيل حرب غزّة، كانت مصر المكبّلة بـ 165 مليار دولار من الديون التي تتزايد يوماً عن يوم، والمتطلعة في كل لحظة إلى مزيد من المساعدات المالية، مقابل قروض جديدة وبيع الأصول، تعيش تهميشاً جيوسياسياً وأفولاً خارجياً، فجاءت حرب غزّة، لتعطي بارقة أمل للنظام، وتضخّ في شرايينه، بعض الدماء وتمنحه قبلة الحياة المؤقتة من جديد، لكن مع تحدّيات، في تلك المرّة، يصعب تجاوزها.
منع النظام خروج المصريين في تظاهرات مندّدة بالعدوان، لكنه، في الوقت ذاته، شدّد على منع أي محاولة تهجير للفلسطينيين، لكن الرئيس عرض وجهة نظر تؤكّد أزلية العداء الذي يكنّه لحركة حماس على اعتبارها امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين، حينما طالب بنقل فلسطينيي القطاع إلى النقب، وبعد انتهاء العمليات العسكرية يجري إعادتهم إلى أرضهم من جديد، مع وضع قوات دولية بين الخصمين في مرحلة ما بعد "حماس"، تلك السياسة اللاحيادية للنظام، صبّت في صالح قطر التي قامت بالدور الرئيس في الهدن المؤقتة، بينما لم يتجاوز الدور المصري الهامشي الإسناد والدعم.
تلاشي الدور الخارجي وضعفه، وفقد النظام كل أوراقه في الداخل والخارج، قد يجعلانه منفتحاً على التصورات المحلية للالتزام بحقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، أو يزيد من تشدّده الاستبدادي. وقد مرّت تغطية الحرب في غزّة في وسائل الإعلام المصرية بتناقضاتٍ عديدة، بداية من تحميل "حماس" المسؤولية عن الحرب، إلى التنديد بـ الوحشية الإسرائيلية، والانحياز الإعلامي الغربي السافر لإسرائيل، واللعب على وتر الأمن القومي، ودور النظام في حماية حدود البلاد والتصدّي لمحاولات فرض التهجير، كما تلاعب بالحقائق في مسائل مثل دخول المساعدات، والقصف الإسرائيلي لمعبر رفح، وصمود المقاومة.
للمرّة الأولى ربما في التاريخ المعاصر ارتبط منع التظاهرات في مصر والدول العربية، بتقييدها في دول أوروبية عديدة
كما منع النظام خروج أي تظاهرات، عدا محاولة وحيدة مصطنعة، كان هدفها إظهار قدرته على الحشد والمنع، وتمرير طلب التفويض! لكنه انتبه، فوراً، إلى سلبيات الخروج إلى الشارع، وإعادة الحياة إلى الحراك السياسي، حينما جرت الحشود، بنهم، إلى الميادين، خصوصا ميدان التحرير، وبدأت الهتافات لغزّة تقترن بالهجوم عليه وتندّد بالأوضاع الداخلية، حينها استعشر أن الأمور قد تجري في طريق انفلاتٍ لا يُحمد عقباه، فأوقف عملية التنفيس، إلى درجة اعتقال وترحيل أربعة نشطاء أجانب، نظّموا وقفة احتجاجية أمام مبنى وزارة الخارجية، للمطالبة بدخول غزّة.
لكن اللافت أنه للمرّة الأولى ربما في التاريخ المعاصر ارتبط منع التظاهرات في مصر والدول العربية، بتقييدها في دول أوروبية عديدة شهدت اعتقالات على الرأي وتقييد الحريات، وفرض رقابة صارمة على محتوى وسائل الإعلام، وتعطيل التغطيات الحيادية، وفرض سرديات تنحاز لأحد طرفي الحرب، وفصل صحفيين وكتّاب في مؤسسات عريقة، فبدت بعض الدول الغربية، عريقة الديمقراطية، وكأنها امتدادٌ للعالم الثالث، واتّضح أن الحدود بين الديمقراطية، والاستبداد والإهدار الكامل للحقوق الإنسانية، يمكن أن تكون أرقّ من الشعرة وأحدّ من السيف.
تحدّيات وعوائق
كشفت سياقات الحرب في غزّة، بنسبة كبيرة، للجماعات المدنية والمنظمات غير الحكومية، ضرورة تحمّل تبعات الواقعية السياسية، والبحث عن استراتيجيات جديدة وبدائل ومسارات، لتحقيق أهدافها في التعاطي مع حالة حقوق الإنسان في البلاد. وفي المقابل، ربما اعتبر النظام سقوط ورقة الخارج، إذناً له بشنّ حربٍ أخرى، ضروس وزيادة وتيرة القمع لإحكام إخضاع المنظمات الحقوقية إلى سلطته، وهو الأمر الذي يجب علي المجتمع الحقوقي المصري أن ينتبه إليه، وهو يتعامل مع ملفّ الحرب الحالية، خصوصا وهو يجد نفسه، هذه المرّة، أمام تحدّيات عديدة، في ملفّ الجرائم التي تُرتكب بحقّ المدنيين في غزّة والضفة الغربية، منها:
فقد مصريون كثيرون الثقة في منظومة حقوق الإنسان الدولية، كتأثير مباشر لوحشية الحرب
أولا، مواقف عدّة دول في المجتمع الدولي الداعمة ملفّ حقوق الإنسان في مصر، والتي تورّطت بشكل واضح وفاضح في دعم جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في غزّة والضفة، وهو ما يطرح تساؤلاتٍ عن مدى إمكانية التعامل معها مستقبلاً، واستراتيجية التواصل معها في الشأن الداخلي وأعمال المناصرة الدولية.
ثانيا، فتح نقاش بشأن قضية التمويل الأجنبي، لكن هذه المرّة، من المجتمع الحقوقي ذاته، وليس غريبا القول إن معظم الدول التي تموّل أعماله، وتدعمه في رصد الانتهاكات وتوثيقها ونشر ثقافة حقوق الإنسان في مصر، هي ذاتها التي تدعم إسرائيل سياسيا وعسكريا في حربها على الشعب الفلسطيني.
ثالثا، تأثير الانتماء الحزبي والمرجعية السياسية للحقوقيين على التعاطي مع أحداث الحرب في غزّة على حساب الخلفية الحقوقية.
رابعا، إقامة الحقوقيين المصريين في المهجر في دول داعمة لإسرائيل، وتأثير ذلك على أمانهم ومساحة نشاطهم، حيث أصبحوا بين مطرقة النظام المصري الذي يطاردهم وسندان توجهات القمع الداخلي في بلدان مهجرهم.
خامسا، فقد مصريون كثيرون الثقة في منظومة حقوق الإنسان الدولية، كتأثير مباشر لوحشية الحرب، وفشل المنظمات في القيام بدورها، بعد أن غلّت العديد من دول المجتمع الدولي أيديها، وهو ما قلّص نجاحاتها السابقة، وربما أعاد العمل الحقوقي إلى الوراء 20 عاماً.
يحدّد دور مصر ونجاحها في التوسّط أو التوصل إلى حل للصراع في غزّة مستوى علاقاتها الإقليمية، ووزنها النسبي، وسياستها المحلية والخارجية، بما في ذلك قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالسلب والإيجاب.
نتائج الأوضاع الجيوسياسية لن توقف الضغوط على السيسي، من أجل تعويم الجنيه مرّةً أخرى
وقد كشف تقرير بلومبيرغ عن تحول ودعم أوروبي متوقع لمصر بعشرة مليارات دولار، وقرض جديد من صندوق النقد الدولي، يجري التوافق حوله، بهدف حماية النظام، من خطر الانهيار المالي، ومنعه من أن يكون أول ضحايا حرب غزّة. لكن نتائج الأوضاع الجيوسياسية لن توقف الضغوط على السيسي، من أجل تعويم الجنيه مرّةً أخرى، لتُفاقم أزمة تكلفة المعيشة في مصر، التي تتزايد بمعدّلاتٍ كارثيةٍ. فيما تُلقي الحرب بتبعاتٍ جديدةٍ على الاقتصاد المتهالك، مثل نقص الغاز الوارد من إسرائيل، ما أدّى إلى زيادة فترات انقطاع الكهرباء، وارتفاع الأسعار، وضرب الموسم السياحي، وتأثّر عائدات قناة السويس، بضغط الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر، وفرض معادلة جديدة: مرور السفن مقابل دخول المساعدات لغزّة. لذلك، حتى مع سخاء الدعم المادي المقدّم للنظام، سواء أكان لموافقه المتماهية مع الدول الداعمة لإسرائيل في الحرب، أو خوفاً من تأثير الحرب على الأوضاع الداخلية لبلاده، ما يساهم في زيادة موجات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، لن يفضي ذلك إلى تغيير جوهري، وسيظلّ السخط الداخلي يتنامى، وسيظلّ فساد النظام كفيلا بابتلاع أي مساعدات جديدة، مهما تعاظمت.
يؤثر الصراع مؤكّداً على سياسات الأمن الداخلي في مصر، وزيادة التدابير الأمنية، وما يصاحبها من تداعيات على الحريات المدنية وحقوق الإنسان، تحت دعاوى الاصطفاف الوطني وتفويض القيادة، ومواجهة الغرب المتآمر، وحماية الحدود، ومؤامرة التهجير، إلى درجة أن تبريرات القاهرة وتخوّفاتها المعلنة، يطغى عليها المنطق الأمني، والخشية من نشأة علاقات لوجستية، وأيديولوجية وعملياتية بين المقاومين الفلسطينيين وأهل سيناء، ما يعيد النشاط الجهادي إلى شبه الجزيرة، بعد القضاء عليه! لكن التأثير المتوقع للحرب، واقعياً، يختلف اعتمادًا على نوع النظرة الأمنية، ومن جهاز إلى آخر، وتبعاً لظروف النزاع ونتائجه، والسياق السياسي السائد في البلاد، والمزاج الشعبي.
القبضة الحديدية للنظام لم تكن قوية كما كانت، وخدعة الانتخابات وقاعدة الدعم لا تعني حصانة دائمة
ضغوط وسيناريوهان
ويعتقد الكاتب هنا أن القبضة الحديدية للنظام لم تكن قوية كما كانت، وخدعة الانتخابات وقاعدة الدعم لا تعني حصانة دائمة، ووضع السياسة الخارجية المُزري للبلاد، كلها مؤشّرات تدفع لإنتاج واقع وفرز جديدين، عبر فرص المساومة والتفاهم، أو الضغط، علما أن ضغوط الحروب لا تنتهي مع نهايتها، لكن عواقبها الاقتصادية والسياسية تستمرّ سنوات، متبوعة بمظاهر الضعف وعدم الاستقرار، والنتائج التي يصعُب استقراؤها. لذلك أعتقد أن تأثيرات الحرب وما بعدها ترتبط، في القراءة الآنية، بسيناريوهين:
استمرار سياسات النظام كما هي، ولجوؤه إلى مزيد من عمليات التجميل، كالتي أجراها خلال السنتين الماضيتين، بدايةً بما سُميت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وانتهاءً بما سُمي الحوار الوطني. العودة إلى سياسة القمع المباشر، والتي قد تبدأ بقمع المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية، وقد تصل إلى إعادة تنفيذ الإعدامات بحق معارضيه السياسيين.
العامل الأساسي في ترجيح أي من السيناريوهين حجم الضغوط الداخلية التي سيتعرّض لها، خصوصا مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد، والتي يتوقع زيادتها في الربع الأول من العام المقبل، وإن كانت حرب إسرائيل على غزّة قد أكّدت تضاؤل فرص الضغوط الخارجية عليه في المدى القريب.