"الأمن اليومي" مهدّد
نتائج صادمة ظهرت في استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، إذ بيّن أنّ 38% من الأردنيين يعتقدون أن بلدهم أصبح أقل أماناً مقارنة بالسنوات الخمس الماضية، وهو ارتفاع مفاجئ في هذه النسبة، ما يعكس القلق الشديد من ظواهر اجتماعية عديدة بدأت تأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامات الناس وهواجسهم، خاصة مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وسهولة انتقال المعلومات أو حتى الإشاعات.
الأخطر في الموضوع أنّ النسبة الكبرى لا تعزو التراجع في الشعور بالأمن إلى أسباب سياسية أو أمنية محضة، كما يحدُث في دول عربية ومجتمعات أخرى، وقعت في فخّ الحروب الداخلية والأزمات الطائفية، بل بسبب الانهيارات المجتمعية والأخلاقية المرتبطة بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية والتحولات الثقافية التي حدثت في العقود الأخيرة، فوفقاً للاستطلاع تعتقد الغالبية العظمى من الأردنيين (91%) أن العنف المجتمعي منتشر في الأردن. وعزا غالبيتهم أسباب انتشار العنف المجتمعي إلى الفقر والبطالة (42%)، وتحولات أخلاقية اجتماعية في العادات والتقاليد (19%)، والمخدّرات (14%)، والبعد عن الدين (12%).
وتعزيزاً لهذه الخلاصات بشأن القلق والخشية من الخطر القابع في داخل المجتمع، يُظهر الاستطلاع أنّ غالبية الأردنيين (72%) يعتقدون أن الأسلحة منتشرة بين المواطنين، كما يرى 91% أن تعاطي المخدّرات وتجارتها منتشران في الأردن. فيما يعتقد ثلثا الأردنيين (65%) أنّ جريمة سرقة المنازل منتشرة في البلاد، و62% يعتقدون أن جريمة سرقة السيارات منتشرة. ويظن الغالبية العظمى من الأردنيين (86%) أنّ جرائم القتل منتشرة، ويعتقد 74% أن جريمة البلطجة منتشرة.
ليس المهم إذا كانت هذه الأرقام دقيقة أم لا، فالخطير في الموضوع انتشار هذه القناعات وذلك الانطباع في أوساط الرأي العام الأردني عن الحالة المجتمعية، وهو الأمر الذي يعكس شكوكاً متنامية في أنّ الأمن الإنساني للمواطن المرتبط بحياته اليومية والخاصة أصبح تحت طائلة التهديد، وهو أمرٌ قد يأخذ أبعاداً بنيوية، لأنّه لا يرتبط فقط بسلوك السلطة أو الأجهزة الأمنية، بل بالجوانب القيمية والثقافية والبنية المجتمعية نفسها، ولعلّ الصدمة الكبرى أنّ مركز الدراسات أضاف على استطلاعات الرأي، أخيراً، سؤالاً متعلقاً بالثقة المجتمعية، وتبيّن من الأسئلة أنّ الغالبية العظمى من الأردنيين لا يثقون في جيرانهم، وهذه ظاهرة أيضاً غريبة وجديدة قد تكون مرتبطة بالتحوّلات الاقتصادية والمجتمعية الكبرى في مجتمعاتنا.
تخيّلوا أنّ كل هذا الشعور بالقلق والريبة ونحن نتحدّث عن نموذج دولة عربية نجت من كل الأزمات الخطيرة التي وقعت فيها دول الجوار، من حروبٍ داخلية وطائفية وتشريدٍ وهجرة ولجوء ونزوح وانقطاعات مستمرّة في الخدمات الأساسية، على صعيد الكهرباء والماء! فما هو الشعور لدى غالبية الشعوب العربية التي تقع تحت طائلة التهديد المباشر للحياة البشرية؟!
كنتُ أقرأ قبل أسبوعين مقالاً في "العربي الجديد" لسمر يزبك "يقين في مخيم الركبان"، لا يملك من يقرؤه وله قلب إلا أن يرتعب من هذه الكارثة الإنسانية التي نتفرّج جميعاً عليها، ويُغمض العالم عينيه عنها، فضلاً عن مئات آلاف من المفقودين والموجودين في معكسرات الاعتقال من النساء والأطفال، وهذا مشهدٌ جزئي من مشهد عام أكبر في العالم العربي ينبئنا بحجم الدمار والانهيار الذي يحدُث، عندما نشاهد مئات آلاف من المواطنين الذين يعانون يومياً في أبسط ملامح الحياة!
.. أصبحت هذه الوقائع اليومية متراكمة، فنحن نتحدّث عن أجيال جديدة وُلدت في مخيمات اللجوء والنزوح وفي ظروف قهرية، وهذه الأجيال حُرمت من أبسط حق على وجه الكرة الأرضية، وهو الحق بالإنسانية. نحن، يا سادة، أمام تطور خطير في ديناميكيات الانهيار الذي لا يرسم معالم الحاضر، بل قد يكون عاملاً خطيراً في بناء المرحلة المقبلة.